بعد تحوّل منتوجاته من ضروريات إلى كماليات وجزء منه إلى مرأب
بعد تحوّل منتوجاته من ضروريات إلى كماليات وجزء منه إلى مرأب
سوق النحاسين في طرابلس ينتظر تطبيق مشروع الإرث الثقافي
حرفي يقوم بعمله في سوق النحاسين
غسان ريفي
طرابلس:
لم يكن سوق النحاسين في طرابلس يحتاج الى من يدل عليه، أو أن يحدد موقعه لزوار المدينة القديمة، حيث ان صدى قرقعة «الدق» على النحاس كان يصل الى كل الاسواق المحيطة به، ليعلن عن ورشة عمل لا تهدأ لتأمين حاجات الأهالي من مستلزمات الحياة اليومية آنذاك، لا سيما على صعيد الأواني المنزلية مثل: الدست، اللكن، الطناجر، الملاعق، السكاكين، الشوك، الاكواب، الهاون، مناقل الفحم، وصدور الحلويات وغيرها من الادوات الأساسية. وهذا ما كان يجعل سوق النحاسين في حركة تجارية ناشطة ودائمة، ويحوله الى ملتقى أبناء طرابلس التي اشتهرت بصناعة النحاسيات من خلال عائلة الطرطوسي المتفردة بهذه المهنة منذ عهد المماليك. وقد ذاع صيتها في الدول العربية المجاورة ما دفع ببعض العائلات السورية بالقدوم الى طرابلس مع بداية القرن الماضي، والعمل لديها، لتقوم بعد ذلك بافتتاح محلات خاصة بها ومن أهم هذه العائلات: حسون، طحلة وعزو، لكن اكثرية هذه العائلات لم تمكث طويلا في سوق النحاسين، واتخذت من بلدة القلمون (9 كلم جنوب طرابلس) مقرا لها لصناعة النحاسيات.
لمحة تاريخية
أنشئ سوق النحاسين في العهد المملوكي أي قبل أكثر من 700 عام وذلك في إطار مشروع تنظيم أسواق المدينة المتخصصة الذي نفذه المماليك مع بداية حكمهم. ويمتد هذا السوق من حمام عز الدين الموصللي، الذي بناه الصليبيون، الى محلة التربيعة التي أنشأها الإفرنج خلال احتلالهم المدينة، وصولا الى السراي العتيقة. وهو يعتبر الخط الفاصل بين سوق البازركان ومحيطه، وبين خان المصريين وخان الخياطين والأحياء التي تؤدي الى بركة الملاحة وسوق حراج الأثري. إلا أن هذا السوق الضيق الذي كان يضم أكثر من 45 مصنعا ومتجرا لبيع النحاسيات، ما لبث ان تحول مع التطور العمراني في منتصف القرن الماضي الى شارع واسع يصل محلة القلعة وباب الحديد بالسراي العتيقة وبمنطقة التل. وقد أدت الاعتداءات التي طالته الى تشوهات في أقسامه خلال سني الحرب ما أفقده طابعه التراثي والاثري. وترافق ذلك مع تراجع المهنة التي اقتصرت، مع تطور صناعة الاواني المنزلية ودخول «الستانلس» و«الألمنيوم» ومختلف انواع المعادن إليها، على صناعة التحف الشرقية والتذكارات النحاسية التي باتت تنتظر السياح الأجانب والعرب والمغتربين اللبنانيين لشرائها. وهذا ما أدى الى إغلاق أكثر من نصف محلات سوق النحاسين وتحوّل من سوق للضروريات الى سوق للكماليات.
شاغلو السوق
يأمل شاغلو السوق أن ينجح مشروع الارث الثقافي الذي ينفذ بتمويل من البنك الدولي في إعادة الطابع الأثري والحضاري الى سوق النحاسين، ليشكل بالتالي عامل جذب للسياح ويساهم في تطوير الحركة التجارية فيه.
فيشير توفيق طرطوسي الى أن سوق النحاسين كان ضيقا جدا مثل أسواق البازركان والعطارين والكندرجية، ولكن بعد طوفان نهر أبو علي تم هدم القسم الشمالي منه، ابتداء من سور النهر وحتى السراي العتيقة، ليتحول بعد ذلك الى شارع واسع للسيارات. لافتا الى أن «مهنة النحاسين في بداية القرن الماضي كانت ناشطة ومربحة كونها تتعلق بضروريات الحياة اليومية لجهة صناعة الأدوات والأواني المنزلية ولكن مع تطور هذه الصناعات، وإنشاء الشركات التي تصدر منتجاتها من «الألمنيوم» و«الستانلس» الى لبنان بأسعار مقبولة، يمكن القول أن مهنة النحاسين قد اندثرت، وبات الأمر يقتصر على صناعة بعض الأواني التي تستخدم في معامل الحلويات، والتذكارات».
كما يلاحظ أنه وعلى الرغم كل ذلك فان هذه الصناعة المستجدة تشهد أيضا تراجعا كبيرا، نتيجة الغلاء الذي طال مادة النحاس، وإغراق الأسواق بالتحف الشرقية النحاسية من سوريا والهند والصين حتى باتت أكثرية المعروضات من غير المنتوجات اللبنانية. هذا بالاضافة الى أن سوق النحاسين شهد تعديات كثيرة وتحول الى مجرد مرأب للسيارات، وفقد قيمته كسوق تراثي يعود الى العهد المملوكي، الأمر الذي انعكس سلبا على أصحاب هذه المهنة ودفع بعدد كبير منهم الى إغلاق محلاتهم أو تأجيرها لأشخاص استخدموها في صناعات اخرى لا تمت الى مهنة النحاسين بصلة. ولكن «نحن متمسكون بمهنتنا التي ورثناها عن الآباء والأجداد، ونأمل أن يتمكن مشروع الارث الثقافي من إعادة السوق الى ما كان عليه في السابق وأن يخصص للمشاة فقط، وأن يصار الى حصر محلات النحاسين وتحويلها الى متاحف حية لاعادة القيمة التراثية والحضارية لهذه المهنة التي كانت تشتهر بها طرابلس على امتداد المدن العربية والاجنبية».
هكذا بالنسبة لطرطوسي تستعيد طرابلس بعضا من خلية النحل التي كان يتصف بها سوق النحاسين. أما اليوم وبالإنتظار «نعمل على صناعة «الأراكيل» و«صدورة» الحلو و«حلل» القشطة، وبعض التذكارات من صحون نحاسية ومناقل لزينة الصالونات ومناقل معدن للشوي».
حركة خجولة
يفتح سوق النحاسين أبوابه كل يوم من الساعة التاسعة صباحا وحتى الرابعة بعد الظهر، وتشهد محلاته حركة خجولة جدا تصل بأصحابها الى حدود الضجر، لتفرض طاولة الزهر المشغولة على الأيادي وجودها، في محاولة لقتل الوقت الطويل الذي يخترقه خلال ساعات النهار بعض السياح والمغتربين اللبنانيين، وعدد ضئيل من أبناء المدينة الذين لا تزال مصالحهم أو طريقة عيشهم تربطهم بهذا السوق.
تدخل الحاجة أمينة الزيلع الى أحد المحلات لشراء صدر للحلويات، وتشير بلهجتها الطرابلسية الحادة «صدر النحاس أحسن للخبيز.. المعمول والسيوا والغريبة بتستوي من فوق ومن تحت». وتترحم الحاجة أمينة على أيام زمان، «لما كنا نجيب الطناجر والدست وحلل النحاس، كان الطبخ طعمتو غير شكل، وكانت أيام خير». مشيرة الى أن الطرابلسيين هجروا سوق النحاسين ولم يعد يعني لهم شيئا «اللهم إلا من واحد محتاج لأركيلة مرتبة أو لصدر حلو متل حكايتي أو لدست لطبخ القمحية، أو لكركة حتى يخرج ماء زهر وماء ورد. أو بأحسن الأحوال ليشتري هدية أو تذكارا».
في حين يؤكد محمد عبد الرحمن (مغترب في أوستراليا) أنه حرص على زيارة سوق النحاسين ليشتري بعض التذكارات من الصحون ومجسمات شجرة الأرز ليقدمها هدايا الى بعض الأصحاب الأوستراليين الذي يعشقون مثل تلك الصناعات، «فيما نتركها نحن للإهمال».
ويشير احمد الشامي (مغترب في كندا) الى ان سوق النحاسين بات أشبه بالمتحف الذي يجذب أبناء المدينة من المغتربين لشراء التذكارات، فـ«من الطبيعي أن نضع في منازلنا تذكارات من لبنان، وأن نهدي اصدقاءنا مثل هذه الحرف الجميلة وخصوصا الأركيلة التي تصنع هنا بشكل تراثي يدهش الأجانب».
0 Comments:
Post a Comment
<< Home