الوطنية والخيانة في "الحالة اللبنانية"
الوطنية والخيانة في "الحالة اللبنانية"
محمد أبو رمان
صحيفة الغد الأردنية 6/12/2006
في معرض تعليقه على اعتصام المعارضة اللبنانية يصف السياسي اللبناني المخضرم، سليم الحص، الحكومة اللبنانية بأنها تأتمر بأوامر أميركية، قائلاً: "قرار الحكومة اللبنانية أضحى فعلياً يعود إلى الإدارة الأميركية، ونحن لا نرى فارقاً حتى في التفاصيل بين ما يسمى استراتيجية أميركية واستراتيجية إسرائيلية، وصدق من قال: من الحب ما قتل"، وقد سبقه السيد حسن نصر الله بوصفٍ أكثر حدة لهذه الحكومة بأنها "حكومة السفير الأميركي"، ومن المعروف أن هذه السمة، في القاموس السياسي العربي المعاصر، كفيلة بوضع صاحبها في صفوف الخونة والعملاء، وتأليب الرأي العام عليه.
بالتأكيد حكومة السنيورة لا ينطبق عليها الوصف السابق، وإن كانت اضطرت إلى الاصطفاف إلى جانب الولايات المتحدة والمعسكر العربي المناوئ لإيران وسورية، فذلك ليس رغبة في المحاور الإقليمية بل اضطراراً لحماية لبنان من التدخل السوري والإيراني المهيمن والمهين، الذي لا يحترم سيادة دولة ولا استقلالها ولا حرمة الإنسان وكرامته أو حياته. في المقابل فإنّ خيار حزب الله ومعه التيار العوني بالاصطفاف إلى جانب المحور الإيراني- السوري هو حماية لمصالحهما سواء الطائفية أو الشخصية، وليس لميزة "وطنية" على الطرف الآخر.
بمعيار حماية الاستقلال والسيادة الوطنية فإنّ مشكلة حكومة السنيورة مع حزب الله أنها لا تريد أن يكون لبنان ساحةً لتصفية الصراعات والحسابات الدولية والإقليمية ولا الحلقة الأضعف التي تخوض الحروب بالوكالة وتكتوي بنارها. والمثال الأبرز على ذلك هي الحرب الأخيرة، التي قدّم فيها أبناء حزب الله بطولة فريدة، لكن قرار الحرب لم يكن لبنانيا، وبكل مقاييس التحليل الاستراتيجي جاء القرار مرتبطا سياسياً وطائفياً بإيران، وعلى الرغم من المرارة التي شعرت بها الحكومة اللبنانية فإنها لم تعط شرعية للحرب الإسرائيلية، واتخذت مواقف سياسية ذكية ومحسوبة بميزان الذهب، وقد شهد بذلك، في حينه، حسن نصر الله نفسه، قبل أن يعود ليطلق الاتهامات تلميحاً وتصريحاً بحق الحكومة ورئيسها.
الحالة اللبنانية مثيرة بالفعل لسؤال الوطنية والخيانة وإعادة تعريفها في الحالة العربية الراهنة؛ فهل تعتبر العلاقة مع الولايات المتحدة والتماهي مع السياسة الأميركية في لبنان "خيانة" بينما الوقوف مع المعسكر الإيراني- السوري هو الوطنية؟ في وصف بسيط وواضح للواقع فإنّ حكومة السنيورة تسعى بعلاقتها مع الولايات المتحدة إلى حليف وطرف دولي يحميها من جار لا يرعى إلاّ ولا ذمة. وإذا كان البعض يقارن بين المظاهرات التي أسقطت حكومة كرامي والاعتصام اليوم لإسقاط الحكومة الحالية فإنّ هذا قياس شنيع وغريب! فالمظاهرات التي أسقطت تلك الحكومة كانت ردّاً على جريمة كبيرة، كانت أصابع الاتهام تشير جميعها إلى السوريين وأدواتهم في الداخل، وكان المطلب هو الاستقلال والأمن الحقيقي، أمّا اعتصام اليوم هو لإنقاذ الحكم السوري من ضريبة دم الحريري والمحكمة الدولية، ضد حكومة جاءت بطريقة ديمقراطية.
قبل الخروج السوري ذاق اللبنانيون الأمرين من هيمنة الوصاية السورية وفسادها وإرهابها، وبعد الخروج دفع اللبنانيون ثمناً باهظاً لمحاولة السوريين العودة من خلال عمليات الاغتيال البشعة والدموية وجر البلاد إلى فوضى أو حرب أهلية؛ إما باستثمار غياب الدولة، كما يحدث اليوم في الحالة العراقية بحيث تحول العراق إلى مسرح نفوذ إيراني- سوري، أو بعقد "صفقة" مع الإدارة الأميركية تقوم على مقايضات إقليمية في ملفات كبرى تنهي من خلالها الإدارة الأميركية دعم الحكومة اللبنانية. أما حكومة السنيورة فلا تسعى إلى صفقات ولا إلى فوضى كل ما تريده الوصول إلى مرحلة كف يد الخارج والاستقرار والأمان والاستقلال.
وفق هذه المعادلة؛ وإذا كان ثمة ضرورة لوصف الخيانة والوطنية؛ فالأولى بسمة الوطنية هي حكومة السنيورة، بينما حزب الله تنطبق عليه تماماً سمة الخيانة وجعل الساحة المحلية وأرواح اللبنانين في مهب معادلة إقليمية لا ناقة لهم فيها ولا جمل، أو تلبية لمصالح طائفية تعلو فوق كل الاعتبارات الوطنية الحقيقية. ولكن الأفضل في الحالة الرمادية الراهنة الابتعاد عن إطلاق أوصاف العمالة والوطنية والخيانة وغيرها.
في الحقيقة، ارتباك المفاهيم(هذا) لا يقف عند الحالة اللبنانية اليوم، فهو أبعد مدى وأوسع نطاقاً، وقد أشار المفكر السوري، برهان غليون، إلى ذلك عند مطالبته بإعادة تعريف الوطنية في الحالة العربية الراهنة، معلقاً على مواقف المعارضة السياسية العربية، بخاصة تلك التي لم تجد بديلاً لها للخلاص من النظم الراهنة البائسة، التي استباحت كرامة الإنسان وحياته، إلاّ بالقبول بالأجنبي أو الاستعانة به.
صحيح، أنّ الأجنبي لم يكن مخلِّصاً من الحالة الراهنة، كما تأمل معارضون عرب حيناً من الدهر، بل كان تدخله وبالاً وخراباً على شعوب المنطقة ترحّمت بعده على عهود الاستبداد والفساد، إلاّ أنّ المعارضين الذين أرادوا الاستعانة بالأجنبي، بديلاً وحيداً، ليسوا أسوأ، أو أقل وطنية، من الموالين والمرتزقة الذين نذروا أنفسهم خدمة لحاكم فاسد وعصابة من اللصوص وقطاع الطرق التي تحكم دولاً عربية وتجعل منها مزرعة لها ولمحاسيبها، وتجعل من قوى الأمن والجيش سفّاحين ومصاصي دماء.
الخلاصة المهمة، من الحالة اللبنانية بخاصة، والعربية بعامة، اليوم، أننا إذا كنا أمام خيارين: إما التحالف مع الولايات المتحدة والغرب وإما القبول بحكومات فاسدة ومستبدة، تمهد بسياساتها الطريق إلى الاستعمار والتدخل الخارجي، فلا يرمي أحدُ الطرفين الآخر بالخيانة والعمالة، فكلنا في الهمِّ شرقُ!
0 Comments:
Post a Comment
<< Home