Wednesday, July 18, 2007

سكانها يستعيدون كابوس «إمارة التوحيد» بعد 22 سنة على سقوطها ... طرابلس تثير شهية «الإسلاميين» وأهلها «يقاومون» ويتمسكون بالدولة

سكانها يستعيدون كابوس «إمارة التوحيد» بعد 22 سنة على سقوطها ... طرابلس تثير شهية «الإسلاميين» وأهلها «يقاومون» ويتمسكون بالدولة
طرابلس (شمال لبنان) – باسم البكور الحياة - 18/07/07//


سوق شعبي في المدينة
يقف محمد أفيوني على شرفة منزله المطلة على قلب طرابلس من منطقة أبي سمراء. يتكئ قليلاً على «درابزون» الشرفة، ثم يسرّح نظره في تقاسيم المدينة التي نشأ في كنفها وترعرع بين أزقتها العتيقة.

يقول الرجل الستيني بعد تنهيدة عميقة: «لم تعد طرابلس كما كانت عليه قبل بضعة عقود من الزمن. إذ شوّه بعض أبنائها صورتها باسم الإسلام». ثم يشير بيمينه الى الجزء الظاهر من طلعة الرفاعية، قائلاً: «لهذا المكان قصة مع «إسلاميي» طرابلس الذين «حكموا» المدينة بين عامي 1982 و1985. كانوا ينصبون حاجزاً في آخر الطلعة بعد العاشرة ليلاً، ثم يعمدون الى توقيف السيارات بقوة السلاح، ويطلبون من سائقها فتح فمه ليشمّوا رائحته. فإن اكتشفوا انه كان في سهرة شرب خلالها الخمر... أوسعوه سباباً وشتائم وركلاً وضرباً بأعقاب بنادقهم(...) كان هؤلاء يمارسون على الأرض أفعالاً تتناقض كلياً مع أحكام الآيتين القرآنيتين الكريمتين: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة» و «أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟»، ما جعل الناس ينفرون منهم ومما يدعون إليه غصباً».

يتحدث أفيوني بكثير من الألم عن تلك الفترة التي أحكمت فيها «حركة التوحيد الإسلامي» قبضتها على عاصمة الشمال اللبناني، فحكمتها بالنار والبارود، ومنعت فيها المسابح والملاهي ودور السينما. وألبست طرابلس الحجاب عنوة، معلنة إياها «إمارة إسلامية» خاضعة لأمرة «أمير الحركة» الشيخ سعيد شعبان الذي توفي في مطلع حزيران (يونيو) 1998.

ويصف غالبية الطرابلسيين حقبة إمارة التوحيد بـ «النقطة السوداء» في تاريخ المدينة، جرّت - ولا تزال – على طرابلس صورة «نمطيّة» جزئية وظالمة لا تمثل تاريخ المدينة وهويتها. وعلى رغم هزيمة «حركة التوحيد» أمام القوات السورية في المعركة الشهيرة عام 1985، إلا ان حلم «الإمارة» الإسلامية ظل يراود أميرها شعبان سنوات بعد سقوطها. ويتذكر الطرابلسيون كيف منع شعبان صاحب سينما «ريفولي» في طرابلس عرض فيلم «الإرهابي» لعادل إمام في آذار (مارس) 1994، بعدما هدّد بـ «تفجير» الصالة في حال عرض الفيلم المصري، بحجة انه «يسيء الى الإسلام ويشوّه صورة الجماعات الإسلامية في الوطن العربي».

تلك الحادثة وسواها من الممارسات المماثلة، السابقة واللاحقة، ساهمت في رسم صورة مشوّهة عن طرابلس التي باتت تصفها وسائل الإعلام المحلية والدولية بأنها «مدينة التطرّف» و «موئل التكفيريين» في لبنان، على رغم ان أهل المدينة كانوا في طليعة الرافضين لـ «إمارة التوحيد» وأكثرهم تضرراً من ممارساتها. ولا يتردد مصطفى مستو (58 سنة)، وهو مرشد تربوي، في وصف تلك الحقبة بـ «الكابوس» الذي خيّم على المدينة خلال النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي، معتبراً ان الطرابلسيين اكتشفوا ان شعار «الإسلام هو الحل» الذي رفعه إسلاميو المدينة آنذاك، كان فارغاً: «إذ وجدنا قمعاً... وليس حلولاً أو بدائل اجتماعية وثقافية. فوقعنا تحت تأثير صدمتين متتاليتين: صدمة «الإسلام هو الحل» التي طبقها هؤلاء علينا بالرعب والترهيب، بعد صدمة «العروبة» التي أصابتنا عقب هزيمة 1967». ويعزو نبيل عرابي (40 سنة)، وهو مدرّس، تلك الصدمة الى ان»الشعارات التي رفعها إسلاميو المدينة (ومنها شعار «الإسلام هو الحل») برّاقة وتضرب على وتر ديني حساس، في حين لم تكن ممارساتهم على الأرض تمت بصلة إلى التعاليم الدينية السمحة، بل كانت تطبيقات هوائية شاذة».

كابوس «إمارة التوحيد» الذي حوّل نهارات طرابلس ليالي حزينة وكئيبة بين عامي 1982 و1985، يعيش الطرابلسيون اليوم هاجسه بعدما كادت مدينتهم ان تتحوّل مرة ثانية «إمارة إسلامية» على يد شاكر العبسي هذه المرة، وتحت لواء «فتح الإسلام» بدلاً من راية «التوحيد».

لكن، يبدو ان الطرابلسيين لا يُلدغون من جحر مرتين، بعدما تذوّقوا المرّ من كأس «الإسلاميين». ولعل هذا ما دفعهم أخيراً الى الالتفاف حول الجيش اللبناني في معركته المتواصلة منذ أكثر من خمسين يوماً مع تنظيم «فتح الإسلام». «إن سرّ وقوف الطرابلسيين الأخير مع الجيش يكمن في أنهم يرون فيه «خشبة خلاص» بعد سلسلة طويلة من الخيبات المتوالية»، بحسب تعبير مستو. إنه الالتفاف الذي يعكس عطش أهالي المدينة إلى فكرة الدولة التي كانت غائبة أو مغيّبة عنهم منذ ممانعتهم الشهيرة في دخول «دولة لبنان الكبير» في مطلع أيلول (سبتمبر) 1920، ما أدى الى حرمانهم من أبسط حقوقهم كعاصمة ثانية للوطن الوليد مع استقلال الجمهورية عام 1943. لكن ما الذي يجعل من عاصمة الشمال اللبناني محط أطماع الحالمين بـ «إماراتهم» الوهمية، ومثار «شهواتهم» السلطوية؟

لا شك في ان هوية طرابلس المحافظة، باعتبارها المدينة السنية الأولى في لبنان نسبياً، شكّل جاذباً مهماً للإسلاميين، فأقاموا فيها مؤسساتهم التربوية والصحية والخيرية... وحتى التجارية، حتى باتت المدينة مركز ثقل لـ «مشاريع» هؤلاء ونشاطاتهم. وبالتالي، «اعتمد الإسلاميون على هوية طرابلس الدينية لتكون ظهرهم المحمي، من دون ان يكون هؤلاء بالضرورة ناطقين باسم المدينة»، بحسب تعبير مدير الفرع الثالث لمعهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية عاطف عطية، لافتاً الى ان طرابلس ليست موقع حماية لهؤلاء، «ولكنها في موقع قبول وجودهم بسبب التوازنات الطائفية التي تحكم البلد. إذ دلّت الحوادث الأخيرة ان ثمة تفكيراً بأن تكون طرابلس «بيضة القبّان» (السنية» الموازية لـ «بيضة» الضاحية الجنوبية لبيروت (الشيعية)».
أحد الأحياء الجديدة في طرابلس (الحياة)


وعلى رغم كون طرابلس مدينة محافظة وتقليدية، «إلا أنها ليست مدينة التطرف والتكفير»، بحسب تعبير الأستاذ الجامعي والكاتب السياسي عبدالغني عماد، مفسراً سبب انجذاب إسلاميي لبنان الى طرابلس بأنها واحة من الاعتدال والتسامح، ما جعلها موئلاً أيضاًَ لتيارات أخرى، علمانية... وقومية، وليس إسلامية فحسب. «وعندما توصف المدينة بأنها محافظة وتقليدية فهذا التوصيف ليس جامداً وثابتاً، إذ له أسباب سوسيولوجية وتاريخية. فهي منذ الاستقلال حُرمت من أبسط حقوقها كعاصمة ثانية، وجرى تهميش منظم لدورها وموقعها في الجمهورية الناشئة، واستمر ذلك مع الجمهورية الثانية بعد الطائف (1989)، مضافاً إليه تسلّط مخابراتي وأمني طاول حياتها السياسية».

ويشير عماد الى ان طرابلس في الذاكرة التاريخية لأبنائها هي مدينة العلم والعلماء وقلعة العروبة والإسلام. ومع ذلك، لم تُخفِ المدينة تطلعها يوماً نحو حداثة حُرمت منها، ونحو تنمية طالبت بها، ومشاركة سلبت منها، وهي عبّرت عن هذا في مناسبات كثيرة.

وإذا كانت الصورة المتداولة إعلامياً عن طرابلس اليوم توحي بأنها «حصن منيع» للإسلاميين في لبنان، إلا ان الواقع يبيّن انه ليس للإسلاميين في هذه المدينة تلك السطوة أو الهيمنة التي يتخيّلها كثير من الإعلاميين والسياسيين. إذ خسر إسلاميو طرابلس منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي، الكثير من شعبيتهم ومواقعهم ومراكز القوى لديهم. ويلاحظ عماد في هذا السياق ان هؤلاء لم يستطيعوا الحفاظ على مركز نيابي حصلوا عليه في ظروف استثنائية في الانتخابات النيابية عام 1992. ولا استطاعوا الحفاظ على حصتهم في المجلس البلدي والمجالس الاختيارية التي تدنت الى أدنى مستوى، فضلاً عن دورهم الهامشي في كل المعارك الانتخابية لنقابات المهن الحرة محامين، أطباء، مهندسين... وصيادلة)، إضافة الى ما تبقى من مؤسسات المجتمع المدني... ودورهم المتراجع على المستوى الطالبي والجامعي.

ويستطرد عماد ان ذلك لا يعني التقليل من دور إسلاميي طرابلس وحجمهم، بقدر ما هو دعوة الى عدم المبالغة وإلى الواقعية. «ومن هذا المنطلق يمكن القول ان مناطق التهميش الاقتصادي والاجتماعي في طرابلس والضنية وعكار تشكل بؤراً طبيعية لاستقطاب الشباب ولنمو دعوات التطرّف وسلوكيات العنف والانحراف الاجتماعي. وليس في هذا خصوصية طرابلسية، بقدر ما فيه من خصوصية سوسيولوجية لها علاقة بالقهر الاجتماعي والبطالة والأمية وغياب مشاريع التنمية وتكافؤ الفرص».

وإذا كانت هوية المدينة وطبيعتها المحافظة جعلتها في السنوات الأخيرة مقصداً للإسلاميين من كل التيارات، من «الأحباش»... الى السلفيين، ما شجع بعضها على فتح مراكز ومدارس كثيرة تحت شعار الدعوة ونشر «الثقافة الإسلامية»، من دون حسيب ولا رقيب على المناهج والدروس التي تلقى فيها، «فإن بعض الجمعيات والأحزاب والحركات الإسلامية تدفقت عليها الأموال الإيرانية في إطار الصراع والانقسام السياسي الدائر في لبنان، والسعي لإحداث اختراق في الساحة السنية، لكسر احتكار تمثيلها من قبل «تيار المستقبل»، بحسب رأي عماد.

ويرى بعض الطرابلسيين ان «تيار المستقبل» ساهم في إضعاف شعبية الحركات الإسلامية في المدينة، لأنه احتضن «كتيار سني» العاطفة الشعبية التي كانت تساهم بدورها في تشكيل دعم بشري أساسي لإسلاميي الشمال اللبناني عموماً. «والطريف في الأمر - يقول عماد – ان تنظيم «فتح الإسلام» أعلن انه جاء لنصرة أهل السنة في لبنان (انطلاقاً من طرابلس أو جوارها)، فوجد أشد أنواع المقاومة ممن ادعى انه جاء لنصرتهم»!


سكانها يستعيدون كابوس «إمارة التوحيد» بعد 22 سنة على سقوطها ... طرابلس تثير شهية «الإسلاميين» وأهلها «يقاومون» ويتمسكون بالدولة


طرابلس (شمال لبنان) – باسم البكور الحياة - 18/07/07//












سوق شعبي في المدينة
سوق شعبي في المدينة
يقف محمد أفيوني على شرفة منزله المطلة على قلب طرابلس من منطقة أبي سمراء. يتكئ قليلاً على «درابزون» الشرفة، ثم يسرّح نظره في تقاسيم المدينة التي نشأ في كنفها وترعرع بين أزقتها العتيقة.


يقول الرجل الستيني بعد تنهيدة عميقة: «لم تعد طرابلس كما كانت عليه قبل بضعة عقود من الزمن. إذ شوّه بعض أبنائها صورتها باسم الإسلام». ثم يشير بيمينه الى الجزء الظاهر من طلعة الرفاعية، قائلاً: «لهذا المكان قصة مع «إسلاميي» طرابلس الذين «حكموا» المدينة بين عامي 1982 و1985. كانوا ينصبون حاجزاً في آخر الطلعة بعد العاشرة ليلاً، ثم يعمدون الى توقيف السيارات بقوة السلاح، ويطلبون من سائقها فتح فمه ليشمّوا رائحته. فإن اكتشفوا انه كان في سهرة شرب خلالها الخمر... أوسعوه سباباً وشتائم وركلاً وضرباً بأعقاب بنادقهم(...) كان هؤلاء يمارسون على الأرض أفعالاً تتناقض كلياً مع أحكام الآيتين القرآنيتين الكريمتين: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة» و «أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟»، ما جعل الناس ينفرون منهم ومما يدعون إليه غصباً».


يتحدث أفيوني بكثير من الألم عن تلك الفترة التي أحكمت فيها «حركة التوحيد الإسلامي» قبضتها على عاصمة الشمال اللبناني، فحكمتها بالنار والبارود، ومنعت فيها المسابح والملاهي ودور السينما. وألبست طرابلس الحجاب عنوة، معلنة إياها «إمارة إسلامية» خاضعة لأمرة «أمير الحركة» الشيخ سعيد شعبان الذي توفي في مطلع حزيران (يونيو) 1998.


ويصف غالبية الطرابلسيين حقبة إمارة التوحيد بـ «النقطة السوداء» في تاريخ المدينة، جرّت - ولا تزال – على طرابلس صورة «نمطيّة» جزئية وظالمة لا تمثل تاريخ المدينة وهويتها. وعلى رغم هزيمة «حركة التوحيد» أمام القوات السورية في المعركة الشهيرة عام 1985، إلا ان حلم «الإمارة» الإسلامية ظل يراود أميرها شعبان سنوات بعد سقوطها. ويتذكر الطرابلسيون كيف منع شعبان صاحب سينما «ريفولي» في طرابلس عرض فيلم «الإرهابي» لعادل إمام في آذار (مارس) 1994، بعدما هدّد بـ «تفجير» الصالة في حال عرض الفيلم المصري، بحجة انه «يسيء الى الإسلام ويشوّه صورة الجماعات الإسلامية في الوطن العربي».


تلك الحادثة وسواها من الممارسات المماثلة، السابقة واللاحقة، ساهمت في رسم صورة مشوّهة عن طرابلس التي باتت تصفها وسائل الإعلام المحلية والدولية بأنها «مدينة التطرّف» و «موئل التكفيريين» في لبنان، على رغم ان أهل المدينة كانوا في طليعة الرافضين لـ «إمارة التوحيد» وأكثرهم تضرراً من ممارساتها. ولا يتردد مصطفى مستو (58 سنة)، وهو مرشد تربوي، في وصف تلك الحقبة بـ «الكابوس» الذي خيّم على المدينة خلال النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي، معتبراً ان الطرابلسيين اكتشفوا ان شعار «الإسلام هو الحل» الذي رفعه إسلاميو المدينة آنذاك، كان فارغاً: «إذ وجدنا قمعاً... وليس حلولاً أو بدائل اجتماعية وثقافية. فوقعنا تحت تأثير صدمتين متتاليتين: صدمة «الإسلام هو الحل» التي طبقها هؤلاء علينا بالرعب والترهيب، بعد صدمة «العروبة» التي أصابتنا عقب هزيمة 1967». ويعزو نبيل عرابي (40 سنة)، وهو مدرّس، تلك الصدمة الى ان»الشعارات التي رفعها إسلاميو المدينة (ومنها شعار «الإسلام هو الحل») برّاقة وتضرب على وتر ديني حساس، في حين لم تكن ممارساتهم على الأرض تمت بصلة إلى التعاليم الدينية السمحة، بل كانت تطبيقات هوائية شاذة».


كابوس «إمارة التوحيد» الذي حوّل نهارات طرابلس ليالي حزينة وكئيبة بين عامي 1982 و1985، يعيش الطرابلسيون اليوم هاجسه بعدما كادت مدينتهم ان تتحوّل مرة ثانية «إمارة إسلامية» على يد شاكر العبسي هذه المرة، وتحت لواء «فتح الإسلام» بدلاً من راية «التوحيد».


لكن، يبدو ان الطرابلسيين لا يُلدغون من جحر مرتين، بعدما تذوّقوا المرّ من كأس «الإسلاميين». ولعل هذا ما دفعهم أخيراً الى الالتفاف حول الجيش اللبناني في معركته المتواصلة منذ أكثر من خمسين يوماً مع تنظيم «فتح الإسلام». «إن سرّ وقوف الطرابلسيين الأخير مع الجيش يكمن في أنهم يرون فيه «خشبة خلاص» بعد سلسلة طويلة من الخيبات المتوالية»، بحسب تعبير مستو. إنه الالتفاف الذي يعكس عطش أهالي المدينة إلى فكرة الدولة التي كانت غائبة أو مغيّبة عنهم منذ ممانعتهم الشهيرة في دخول «دولة لبنان الكبير» في مطلع أيلول (سبتمبر) 1920، ما أدى الى حرمانهم من أبسط حقوقهم كعاصمة ثانية للوطن الوليد مع استقلال الجمهورية عام 1943. لكن ما الذي يجعل من عاصمة الشمال اللبناني محط أطماع الحالمين بـ «إماراتهم» الوهمية، ومثار «شهواتهم» السلطوية؟


لا شك في ان هوية طرابلس المحافظة، باعتبارها المدينة السنية الأولى في لبنان نسبياً، شكّل جاذباً مهماً للإسلاميين، فأقاموا فيها مؤسساتهم التربوية والصحية والخيرية... وحتى التجارية، حتى باتت المدينة مركز ثقل لـ «مشاريع» هؤلاء ونشاطاتهم. وبالتالي، «اعتمد الإسلاميون على هوية طرابلس الدينية لتكون ظهرهم المحمي، من دون ان يكون هؤلاء بالضرورة ناطقين باسم المدينة»، بحسب تعبير مدير الفرع الثالث لمعهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية عاطف عطية، لافتاً الى ان طرابلس ليست موقع حماية لهؤلاء، «ولكنها في موقع قبول وجودهم بسبب التوازنات الطائفية التي تحكم البلد. إذ دلّت الحوادث الأخيرة ان ثمة تفكيراً بأن تكون طرابلس «بيضة القبّان» (السنية» الموازية لـ «بيضة» الضاحية الجنوبية لبيروت (الشيعية)».








أحد الأحياء الجديدة في طرابلس (الحياة)
أحد الأحياء الجديدة في طرابلس (الحياة)



وعلى رغم كون طرابلس مدينة محافظة وتقليدية، «إلا أنها ليست مدينة التطرف والتكفير»، بحسب تعبير الأستاذ الجامعي والكاتب السياسي عبدالغني عماد، مفسراً سبب انجذاب إسلاميي لبنان الى طرابلس بأنها واحة من الاعتدال والتسامح، ما جعلها موئلاً أيضاًَ لتيارات أخرى، علمانية... وقومية، وليس إسلامية فحسب. «وعندما توصف المدينة بأنها محافظة وتقليدية فهذا التوصيف ليس جامداً وثابتاً، إذ له أسباب سوسيولوجية وتاريخية. فهي منذ الاستقلال حُرمت من أبسط حقوقها كعاصمة ثانية، وجرى تهميش منظم لدورها وموقعها في الجمهورية الناشئة، واستمر ذلك مع الجمهورية الثانية بعد الطائف (1989)، مضافاً إليه تسلّط مخابراتي وأمني طاول حياتها السياسية».


ويشير عماد الى ان طرابلس في الذاكرة التاريخية لأبنائها هي مدينة العلم والعلماء وقلعة العروبة والإسلام. ومع ذلك، لم تُخفِ المدينة تطلعها يوماً نحو حداثة حُرمت منها، ونحو تنمية طالبت بها، ومشاركة سلبت منها، وهي عبّرت عن هذا في مناسبات كثيرة.


وإذا كانت الصورة المتداولة إعلامياً عن طرابلس اليوم توحي بأنها «حصن منيع» للإسلاميين في لبنان، إلا ان الواقع يبيّن انه ليس للإسلاميين في هذه المدينة تلك السطوة أو الهيمنة التي يتخيّلها كثير من الإعلاميين والسياسيين. إذ خسر إسلاميو طرابلس منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي، الكثير من شعبيتهم ومواقعهم ومراكز القوى لديهم. ويلاحظ عماد في هذا السياق ان هؤلاء لم يستطيعوا الحفاظ على مركز نيابي حصلوا عليه في ظروف استثنائية في الانتخابات النيابية عام 1992. ولا استطاعوا الحفاظ على حصتهم في المجلس البلدي والمجالس الاختيارية التي تدنت الى أدنى مستوى، فضلاً عن دورهم الهامشي في كل المعارك الانتخابية لنقابات المهن الحرة محامين، أطباء، مهندسين... وصيادلة)، إضافة الى ما تبقى من مؤسسات المجتمع المدني... ودورهم المتراجع على المستوى الطالبي والجامعي.


ويستطرد عماد ان ذلك لا يعني التقليل من دور إسلاميي طرابلس وحجمهم، بقدر ما هو دعوة الى عدم المبالغة وإلى الواقعية. «ومن هذا المنطلق يمكن القول ان مناطق التهميش الاقتصادي والاجتماعي في طرابلس والضنية وعكار تشكل بؤراً طبيعية لاستقطاب الشباب ولنمو دعوات التطرّف وسلوكيات العنف والانحراف الاجتماعي. وليس في هذا خصوصية طرابلسية، بقدر ما فيه من خصوصية سوسيولوجية لها علاقة بالقهر الاجتماعي والبطالة والأمية وغياب مشاريع التنمية وتكافؤ الفرص».


وإذا كانت هوية المدينة وطبيعتها المحافظة جعلتها في السنوات الأخيرة مقصداً للإسلاميين من كل التيارات، من «الأحباش»... الى السلفيين، ما شجع بعضها على فتح مراكز ومدارس كثيرة تحت شعار الدعوة ونشر «الثقافة الإسلامية»، من دون حسيب ولا رقيب على المناهج والدروس التي تلقى فيها، «فإن بعض الجمعيات والأحزاب والحركات الإسلامية تدفقت عليها الأموال الإيرانية في إطار الصراع والانقسام السياسي الدائر في لبنان، والسعي لإحداث اختراق في الساحة السنية، لكسر احتكار تمثيلها من قبل «تيار المستقبل»، بحسب رأي عماد.


ويرى بعض الطرابلسيين ان «تيار المستقبل» ساهم في إضعاف شعبية الحركات الإسلامية في المدينة، لأنه احتضن «كتيار سني» العاطفة الشعبية التي كانت تساهم بدورها في تشكيل دعم بشري أساسي لإسلاميي الشمال اللبناني عموماً. «والطريف في الأمر - يقول عماد – ان تنظيم «فتح الإسلام» أعلن انه جاء لنصرة أهل السنة في لبنان (انطلاقاً من طرابلس أو جوارها)، فوجد أشد أنواع المقاومة ممن ادعى انه جاء لنصرتهم»!


0 Comments:

Post a Comment

<< Home