لا لسلطة غير عادلة تحبذ طائفة على أخرى
لا لسلطة غير عادلة تحبذ طائفة على أخرى
فادي عاكوم
GMT 16:00:00 2005 الأحد 1 مايو
فادي عاكوم من بيروت: أعلن المثقفون اللبنانيون رفضهم للسلطة غير العادلة التي تحبذ طائفة على اخرى أو ترفع إحداها وتستهين بالأخرى تماشيًا مع سياسات داخلية او خارجية،وتمنى المثقفون على الدولة اللبنانيةان تاخذ على عاتقها مسألة حماية الأرض والحدود ولا تترك الأمر بين أيدي تنظيم مسلح باعتبار انها والعالم غير مسؤولين عن افعاله. كما أعلنوا أن القرار 1559 لا يختلف عن اتفاق الطائف إلا في المرجعية والسياق والعواقب ولا يسع اللبنانيون ان يجابهوا القرار بالرفض الفاعل ولا بمجرد الخطابة حتى لا يتصارعوا فيما بينهم في ظل دولة مفلسة .جاء ذلك في وثيقة وقعها المثقفون اللبنانيون بعد جلسات عدة ووفق مراحل عدة تلت استشهاد رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان السابق في الرابع عشر من شباط (فبراير) 2005، وبعد توالي تداعيات هذه الجريمة النكراء التي نالت استنكار العالم أجمع، وفي ما يلي نص الوثيقة التي تتضمن أيضا تحليلا معمق لمظاهرات وسط بيروت، الشبيهة بالامواج البشرية المتدفقة، التي تلت مقتل االحريري والتي لم تكن في نظرهم سوى رفضًا للقهر والإذلال والظلم والتطلع الى مستقبل جديد.1-مفاعيل الجريمة :
لا تزال بلادنا تشهد ، فصلا بعد فصل ، عواقب الجريمة السياسية الكبرى التي أودت بركن من أركان الحياة السياسية اللبنانية في العقدين المنصرمين هو الرئيس رفيق الحريري وغيبت معه جماعة من مرافقيه ومن سائر المواطنين الامنين. وهي قد أصابت أيضاً مواطنين كثرا في اجسامهم أو في مساكنهم وأرزاقهم وأنزلت أضراراً في منشآت ومصالح كثيرة. ثم إنها نشرت مفاعيلها السامة إلى وجوه مختلفة من حياة المواطنين العادية وإلى ما تستقيم به هذه الحياة من أمن وعمل منتظم لمرافق المجتمع والدولة ، على اختلافها. في ما يتعدى ذلك كله ، أشرعت الجريمة البلاد لرياح أزمة سياسة بالغة الخطورة كانت نذرها تتجمع من مدة طويلة وكانت لفحاتها الأولى قد هبت علينا بقوة في غضون الأشهر القليلة السابقة. وهي أزمة واجهها ، بالنزول إلى الشوارع والساحات ، كثرة من اللبنانيين تنوعت مناشئها ومشاربها إلى حد خلت ذاكرة لبنان المستقل من نظير له. نزلت هذه الكثرة لترسم بشعاراتها الغالبة معالم تراها لمستقبل البلاد ، معلنة حقها في حمل المسؤولية عن مصيرها بعد نزعها من أيدي الاستبداد والفساد التي طال عبثها بمقدرات الدولة وبحقوق اللبنانيين كافة. كان من أمر هذه الجناية الفادحة ، بادئ ذي بدء ، أنها دفعت بمئات الألوف من اللبنانيين إلى قلب بيروت في موكب تشييع حزين وناقم لم تشهد له عاصمتنا مثيلاً ، على كثرة ما حافظت ذاكرتها من مواكب. وقد تلازم في الأصوات العالية المتجاوبة بين جنبات هذه الموكب وفي ما أسفر عنه من أعمال التظاهر والإعتصام مطلبان : أولهما جلاء حقيقة الجريمة من غير مماطلة ولا نص ولا تحرير ، ليترتب على هذا الأمر مقتضاه على كل صعيد ، وثانيهما رفع يد الهيمنة السورية عن الدولة والبلاد. ولقد أفضى ضغط التظاهر والاعتصام ، من بين ما أفضى إليه ، إلى سقوط الحكومة في الشارع. وكان من أمر الجناية نفسها ، أيضاً أنها قوت ووسعت إلى حد لم يسبق له مثيل ، هو الأخر مفاعيل الحملة الدولية الرامية إلى فرض انسحاب القوات السورية من لبنان وإنهاء هيمنة النظام السوري عليه. وهي حملة كانت قد بلغت ، قبل مدة غير قصيرة ، محطة أميركية تمثلت في استصدار القانون المسمى بـ"محاسبة سورية واستعادة سيادة لبنان". ثم بلغت ذروة جديدة في عشية التمديد المفروض فرضاً لرئيس الجمهورية الحالي مع اتخاذ مجلس الأمن الدولي القرار 1559 ، مبنياً على مبادرة اميركية فرنسية. فإذن ذلك على الأخص بدخول اوروبي جامع صحبته أيضاً أصوات عربية عديدة وصريحة ، إلى حلبة المطالبة بانسحاب القوات السورية من بلادنا. وقد شفع القرار الدولي هذا المطلب بأخر موضوعه نزع سلاح المليشات اللبنانية (ويقصد حزب الله) وغير اللبنانية (ويقصد الفلسطينية) . ثم كانت جريمة الإغتيال مناسبة لاتخاذ هذه الحملة صفة الالحاح وما يشبه الإنذار المتكرر للنظام السوري بلزوم الامتثال . واضطلت بذلك أصوات قوية متآزرة هي جملة الصوات الدولية ذات الأثر في ما جريات الصراع الدائر على ساحات المنطقة العربية . وكان من جراء هذا كله أصبح انسحاب القوات السورية وجهاز استخباراتها من بلادنا أمراً جارياً تنفيذه.
2-أن نصبح دولة مستقلة : وليس عندنا من ريب في أن الحملة الدولية التي شدت من أزر الحركة الشعبية اللبنانية وحمتها وحملتها على التشدد في صوغ مطلبيها الآنفى الذكر ، لا تستنفد غاياتها السياسية في ما يعلنه أصحابها من مطالب تتصل برفع يد الهيمنة السورية عن لبنان وبسيادة الدولة اللبنانية. وإنما هي حملة تفيض مراميها كثيراً عن النطاق اللبناني. هذه المرامي تختلف من جهة أولى ن باختلاف الأطراف المجتمعة في الحملة. غير أن مدارها الأوثق ، من جهة أخرى ، إنما هو رغبة الولايات المتحدة ، وهي في أوج رعايتها لمصالح اسرائيل ومطامحها ، في بسط سلطانها الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي على هذه المنطقة من العالم ، وهو ما يبدو تقزيم القوى الإقليمية وزعزعة " استقرارها" أو مواتها الدهري ، بالأحرى وسيلة راهنة بين وسائله. إن ما نبتغي التشديد عليه ، ونحن نستعيد هذا التشخيص (الشائع في كل حال) لدواعي الحملة الدولية ، هو أن الدفاع عن خيار آخر (معارض كليا أو جزئياً لوجهة التدخل الدولي الجاري) لا يستقيم مع الإصرار على هدر استقلال البلاد وايداعها "ورقة" في خزانة سلطان مفلس ولامع إباحتها لجراثيم الفساد المافيوي ، على كل مستوى ، أو مع ترك مواتزينها لفرق الاغتبال السياسي. بل أن اللبنانيين سيجزون عن مسندة القريب أو البعيد على استعادة حق أو حرية ما لم يكونوا هم أنفسهم أحراراً واقفين عند حقوقهم. لذا كان السؤال الذي يطرح في مواجهة هيمنة مقبلة تنذر بالحلول محل الراحلة إنما هو " كيف نصبح دولة مستقلة" وليس هو بحال " كيف نبقى ارضا وشعبا مباحين" ؟
3-حقوق لسورية حقوق للسوريين : لا نبيح لأنفسنا الغفلة عن مصالح سورية الوطنية ولا عن دور مؤكد في دعمها يمليه على الدولة والشعب اللبنانيين جوار وتاريخ ووشائح لاتحصى. فهذه في نهاية المطاف (وفي بدايته أيضاً ) حقوق السوريين لا حقوق النظام السوري. على أن هذا التسليم لا يحول بيننا وبين تعيين الصورة الواجبة لما يترتب علينا الآن ، نحن وأمثالنا من عامة اللبنانيين ، دعما لسورية. هذه الصورة نراها مجسمة ، بادئ ذي بدء ، في دعم الحركة الديمقراطية السورية. نراها مجسمة في موازرة الجهود التي يبذلها سوريون صمموا على التصدي لأسباب التهايف والخسارة في موقف نظام يطلب حقوق سورية الوطنية وهمه ، قبلها ، غل أيدي السوريين وكم أفواههم .. نظام يحول عرق السوريين إلى أتاوات يجنبها لزبانيته التي لم تشبعها سورية ولا كان اشبعها لبنان. ولقد ضرب لنا مثقفون سوريون مثالا لصورة الدعم تلك حين تبنوا ، في غمرة كفاحهم الصعب وظروفهم المرة ، حق شعبنا ودولتنا في وجه نظامهم. هذا بينما أساء إلى كل لبناني من تعرضوا بالقتل والأذى لسوريين قصدوا بلادنا لكسب اللقمة ، على غرار ما يتوزع أبناؤنا في مشارق الأرض ومغاربها وراء الغاية نفسها. فنحن ننظر إلى المناضلين من السوريين وإلى من أجرم من اللبنانيين ونعتبر. وهذه العبرة ترسم نظام قيمنا كله وخط سلوكنا كله في هذا الظرف الذي تجتازه بلادنا وفي كل ظرف آخر.
4-مبارزة من خراج هذا المنطق خرجت يوم الثامن من آذار محفوزة بتصميم معلن إثبات التفوق في الشارع وكسر احتكاره ، جموع أخرى غفيرة من اللبنانيين جمعها حزب الله وتنظيمات اخرى مجارية لسياسة النظام السوري في لبنان. مما أدى لتشدد على الجانب الثاني من إبعاد الأزمة ، أي على احتمال إفضاء التدخل الخارجي إلى تغيير الموقع اللبناني من الصراع العربي الإسرائيلي وعلى مطالبة الدولى المتدخلة لبنان بالعدول عن خيار المقاومة المسلحة. وقد أعرب الخطباء في هذه الجموع عن الشكر للدور الذي أدته سورية في لبنان على مدى ثلاثة عقود ن رافضين رفضاً قاطعا ما يخص الجانب اللبناني من القرار 1559 ، وهذا في الأيام التي كانت فيها الدولة السورية تعلن التزامها إياه وتباشر سحب قواتها من لبنان بموجبه. أخيراً شفعت القوى المتناظرة في ساحة رياض الصلح هذا كله بطلب الحوار مع المعرضة وبتبني الإصرار الجامع على كشف الحقائق المتصلة باغتيال رفيق الحريري ن ولكن من غير تلبث عن مطلب المعارضة المتعلق بشروط نزاهة التحقيق وفاعليته. ثم كان أن احتشدت في وسط بيروت ، مع مرور شهر على جريمة الاغتيال ، جماهير هائلة الأعداد تقاطرت من أرجاء البلاد ، لم يغب عن تلبيتها دعوة القوى المعارضة هم التفوق العددي على حشد الثامن من آذار والعودة ، بالتالي إلى فرض موقف المعارضة الإجمالي على أنه موقف الإكثرية من اللبنانيين. وهذا لأفي وجه جماهير القوى الموسومة بالـ"الموالاة" فحسب ، بل أيضاً في وجه حيازة هذه القوى أكثرية في مجلس النواب موروثة من عهد أخذ ينقضي ، ومع هذه الأكثرية بطبيعة الحال ، سيطرة على أجهزة أمنية وقضائية اتصف سلوكها تكراراً بالجنوح عن أصول عملها وبالتجاوز السياسي لحدود القوانين. ولقد كان للمعارضة ما أرادت لجهة ضخامة الحشد. ولكن هذا لم يبطل (ولا يجوز الظن أنه أبطل) انتشار حال من الشقاق السياسي – الأهلي في طول البلاد وعرضها. وهي حال لم يمنع التنوع الطائفي (والاجتماعي) على ضفتيها-تنوعا كان أظهر على ضفة المعارضة منه على الضفة الأخرى – أن تنسب إلى هويات طائفية متواجهة .. هويات تنزع المواجهة بينها إلى تعديل الموازين الطائفية المنصوبة في البلاد منذ نهاية الحرب.
5-الترجمة الفورية : هذا تشخيص يتغظ بالميل لصيغة النظام الطائفي نحو " ترجمة فورية" لكل أزمة سياسية إلى تباشير خلل في الميزان الطائفي وإلى استنفار طائفة أو طوائف ، بالتالي في وجهة طائفة أو طوائف أخرى. ففي بلادنا هذه ، لا نخرج عادة من أزمة ما بكلتة سياسة تقوي ونسلم بتفوقها وبأخرى تضعف ونتقبل تهالكها. وإنما نخرج في ما وراء المواجهة بين الكتل السياسية ، بطائفة أو طوائف تقوى وبأخرى تضعف. وهو ما يجعل الغنم والغرم يشملان سواء بسواء من ينتمي من أبناء طائفة معينة إلى قوة سياسية رابحة أو خاسرة ومن لا ينتمي إلى القوة المذكورة ، بأي وجه ، بل أيضاً من يناصبها العداء. فيقضي تحول الدولة من موقف إلى آخر في الصراع الاقليمي ، مثلاً إلى تهديد ما في يد هذه الطائفة وتعزيز ما في يد تلك لا من الحقوق فقط بل أيضاً من القدرة على تجاوز الحقوق والتمتع بثمار الباطل ويقضي هذا كله إلى استنفار جموع الطائفة خلف من ترى فيه – دون القوانين – حاميا للحق وترى فيه ، من وجه أخر حاميا للباطل. تلك قدرة عغلى الاستنفار عززتها الحرب وعشاياها ونشرتها إلى طوائف كانت فقيرة إليها في عهود مضت. فأصبحت للطوائف كافة أجهزة متنوعة ، سياسية واجتماعية (ناهيك بما صمد من الأجهزة العسكرية). وضعت هذه الأجهزة يدها على مصالح حيوية للمواطنين وتولت اداتها وغلبت توزعهم طوائف على كل توزع آخر وتوزعتهم كسورا من طوائف. فتعممت مصادرتها المواطنين في حقوقهم الفردية والجماعية ، سواء بسواء. وحصرت بينها حقهم في اختيار انتماءاتهم على أنواعها إلى حد لم يعرفه لبنان ما قبل الحرب. واتحد في فرض حصرية الولاء وفرض تلبية النداء وسائل للدولة صادرها ساسة الطوائف وأخرى قدمها الأقوياء في الجماعات المشحونة بتوتر الهويات وثالثة اغدقها حلفاء أو ولاة أمور من الخارج. فباتت الجماهير الطائفية الغفيرة تدعي فتنصاع ، وبات "تجييرها" في الانتخابات أو ضبطها في جهة من الصراع السياسي ثم نقلها من جهة إلى جهة – متى قضى بذلك تقدير القيادة – أموراً ميسورة على نطاق لم تعرفه البلاد من قبل. فوق ذلك بلغ النظام الطائفي "ذرى" جديدة تعطيله فاعلية المحاسبة الديمقراطية وتوزيعه الحماية على "مراجع " سياسية أدرجتها الحرب في شركة طائفية جديدة – قديمة ، جمعت بين توازن الأطراف وتنافسها. استبعدت المحاسبة على الفساد التفصيلي الذي طغى واستشرى ، إذ نظر إليها على أنها إخلال بمكانه " مرجع" ما ومن ثم بحصانه طائفة ما. وضخم إنفاق الدولة وهدر المال العام أنصبه متناظرة ، يغلب في توزيعها لا منطق المصلحة العامة وأولوياته ولا النظر إلى الضيق المطبق على إمكانات الدولة. بل منطق " الحقوق" المتقابلة للطوائف. وهي حقوق تختزل بدورها إلى حاجات "المراجع" نفسها من سياسة وشخصية. وأبيح رهن سيادة الدولة واختصاصاتها الأصلية لأمر الخارج. رهنت السيادة والاختصاصات على صورة الـ"أنصبة" الطائفية أيضاً ، عند " مرابين" وملتزمي تنظيمات أو كسور من طوائف تتواءم مصالحهم أو تتنازع على أرض البلاد. ويبقى ماثلاً في الأفق أن السلم الأهلي رهينة لهذين التواؤم والتنازع ولدرجات تحكم الخارج في محاسبية اللبنانيين. وفي الأزمة الجارية لم تخل الهواجس الطائفية من إقلاق لعلاقة التحالف المنسوجة بين القوى على كل من ضفتي المسرح السياسي المنصوب اليوم. وقد ظهر القلق على ضفة المعرضة خصوصاً، تبعاً لكون لكون توسعها إلى المدى الذي بلغته حديث الحصول ، حفزته ظروف التمديد لرئيس الجمهورية ثم الجريمة التي أودت برفيق الحريري. وهو توسع انتهى ببعض من القوى الطائفية إلى تغيير باغتها قبل أن يباغت سواها في قاموس الفاظها السياسية وفي الموروث من مسلمات مواقفها العامة. غير أن هذا التشخيص الطائفي تحد من مطابقته واقع الحال ، حتى الآن ، لهجة الاعتدال الاجمالي التي سادت المواجهة ، جازمة باستبعاد العنف وبإظهار الاعتبار من كل الجهتين لقوى الجهة الأخرى أو لأهمها ، في الأقل ومصرة على اتبقاء الأيدي ممدودة للحوار ، وهذا من غير أن يظهر تغيير ذو مؤدي عملي في صياغة الموقفين المتقابلين. يحد من صحة التشخيص الطائفي أيضاً حضور تيار شبابي ديمقراطي فعلا في الحركة الشعبية التي تتصدرها قوى المعارضة ، وكذلك مشروعية طموح الاستقلاليين إلى اعتبار الاستقلال مطلباً جامعاً ، وإن لم يتجل الإجماع عليه ، حتى تاريخه ، في صيغة سياسية ملموسة . التشخيص الطائفي عينه يمكن أن تزداد أسانيده قوة إذا اشتد التوتر وطال أمره. بل أن التوتر يمكن أن يؤثر أيضاً في الميزان الطائفي على كل من الضفتين في اتجاه اختصاره وتظهير صورته ، أي بالنتيجة في اتجاه الزيادة في خطورة المواجهة والانتقال بها إلى طور تعصي عواقبه على الضبط وتتخذ صورة الكارثة الوطنية. وهذا انتقال قد يعجل فيه ما يتوجس منه الناس ، في ظرف الأزمة المستحكمة ، من انهيار غير مستبعد للنقد الوطني وتزعزع لوضع الدولة المالي ومن تماد لحالة الجنوح أو القصور في المسؤولية السياسية والوظيفية عن الأمن. وذلك أن الانهيار الأول ينتقل الأزمة من صعيد إلى صعيد ، قبل أن تنتهي إلى مخرج وأن الجنوح والقصور الخيرين يتركان بأن التخريب مفتوحاً على مصراعيه .
6-الحقيقة شأن سياسي : فلعند بعد هذا إلى مطلبي الحركو الشعبية التي أطلقتها اغتيال رفيق الحريري. ليس المطلب الأول ، أي جلاء وقائع الحدث وغاياته وهوياته الآمرين والمخططين والمنفدين ، بالمطلب المصور على إحقاق حقوق شخصية أصلية ترعاها الشرائع كلها ، وهي حقوق الضحايا وإنما هو في ما وراء ذلك مطلب سياسي من الطراز الأول. فهو يلعن أن شعبا قد شهد من جرائم الاغتيال السياسي ما شهده في نحو من ثلاثين سنة قد طفح كيله من هندسة حياته السياسية بأفعال القتل. وهو يعبر عن إدراك لكون الاعتيال السياسي يكون في بعض حالاته (وهو قد كان يقينا في حالته الأخيرة هذه) عدوانا على شعب برمته أو نوعا من الحرب الأهلية المختصرة ، ولو ارتكتبه يد خارجية. فيبتغي تعديل موازين البلاد السياسية بأكملها أو يرمي إلى تجميد مسيرتها الاجمالية أو إلى تحوير محصلات الصراع السياسي فيها من طريق الفتك بإنسان واحد .
7-هندسة المسرح وأصول التمثيل : ولقد بقيت اليد الطولى في الشؤون اللبنانية متصلة ، طوال أعوام ما بعد الحرب ، بذراع الحضور العسكري السوري. وأصبحت هذه اليد متفرعة إلى أصابع لأجهزة سورية ولبنانية مؤتلفة ومتداخلة ومتوجة برؤوس سياسية مرعية المواقع والحرمات ومعروفة العناوين. ثم تطاولت عبر سنين من السعي الدائب فغدت لاتعف عن مستوى من مستويات الحياة اللبنانية ، أيا يكن فهي تدير في بلادنا شبكات من السياسيين وتلعب بالموازين بينهم لإدامة الضبط والولاء. وهي تدير شبكات أخرى للمراقبة والردع والقمع بما يتجاوز القانون أو يسخره لا يستثنى من بين ادواتها بعض القضاء. وهي تدير شبكات ثالثة إدارية ورابعة إعلامية وثقافية وخامسة مالية واقتصادية وهي تصل من المجتمع إلى تضاعيف كبيرة أو صغيرة من نسيج طوائف وعشائر وعائلات وتداخل مواقع التأثير في أحزاب ونقابات وجمعيات من كل نوع. فكان أن أفضت هذه الهيمنة إلى هندسة مجددة للمسرح السياسي اللبناني بمعظم عناصره ، متخذة الموازين الطائفية وسيلة سياسة لإرساء قواعد لنفسها. وكانت القاعدتان المرعيتان بمنتهى الحرص والحزم أ. ابقاء شرعية التمثيل المسيحي مطعونا فيها من جهة المسيحيين بإقصاء بعض من أبرز قادتهم بإقصاء بعض من ابرز قادتهم السياسيين عن الساحة ب. الحؤول دون نشوء احلاف بين قوى مسيحية وأخرى إسلامية معتبرة التمثيل.
8-حق الاختيار : وقد تارز في توطيد هاتين القاعدتين وغيرهما الخوف والمنفعة واللعب بالقوانين ، وبخاصة قوانين الانتخابات ، وبالتحالفات الانتخابية وبعمل مؤسسات الدولة وادارتها وبمؤسسات مختلفة في القطاع الخاص. أي أن الأرهاب المتعدد الوسائط اقترن بتوزيع مغانم الفساد بإضافة كافة. فباتت شبكة الهيمنة ، بخيوطها الغليظة والدقيقة ، تنتهي إلى تجميد جسيم لمفاعيل القانون : من كفالة للحقوق ومن زجر لهدرها وللعدوان عليها. فيصبح الولاء والرضوخ والامتثال والصمت ، ناهيك بتقبل السخرة السياسية وبدفع المال إذا وجد ، أثماناً يرديها المواطن كلما عرضت له حاجة يريد قضاءها ، بل كلما خشي أن تعرض له حاجة في مقبل الأيام. وتصبح هذه الاثمان كلها محتملة جدا لنيل الحق ومحتملة أيضاً لنيل الباطل ، على ما سلف تن حيث يكون موضوع شهوة. في هذه البيئة الرهيبة كلن يحكي عن انتخابات "حرة" تجري.. نيابية وبلدية ونقابية وغير ذلك. وكان المختصون يستغرقون في مناقشة مخالفات تحصل أو لا تحصل في أيام الموسم الانتخابي ن ويفرغون جهدهم في بحث تفاصيل القانون أو النظام. هذا بينما كانت حرية الاختيار مصادرة سلفا على نطاق بالغ الإتساع. فكان من يحمل مفاتيح الجنة ومفاتيح النار يعرف أن الأكثرين من المرشحين يتنافسون على مرضاته ، أولا وكان يعول على أنه حيث يوجد من يغاضبه أو من لايأبه لأوامره ونواهيه فإن الناخبين سيميزون من تلقاء انفسهم بين من يملك لهم كل الضر وكل النفع ومن ليس في يده من الأمر شيء. وإذا كانت هذه الشبكة المعقدة قد انبسطت على دولتنا ومجتمعنا انبساطا لم يعوزه الاستقرار ، مدة ما بعد الحرب وداخلتهما مداخلة لم تخل من الحكام ، فإن حصر المنافع الكبرى في رؤوس الشبكات وتوزيع الفتات على جماعات واسعة من اللبنانيين ثم الشح الذي أصاب الدولة الموغلة في ازمتها المالية كانت تترجم كلها تجريدا للبنانيين ، جملة من حقوقهم المفروضة لهم بالقانون وتعليقا لمصير وجوه كثيرة من حياتهم وحرياتهم وأعمالهم ومصالحهم على الامتثال لأوامر الشبكة ونواهيها. وهذا في مناخ من الاذلال نال من المواطنين الضعاف ولم ينج منه الزعماء المستقوون بسلطان مثقل بمنن الجوار وشروطه الباهظة .
9-الغيظ والانطلاقة : هذا إلى أن منطق الولويات الذي فرضته الهيمنة ورضخ له شركاوها اللبنانيون كان ينحرف بسياسة الدولة العامة إلى وجهات مريبة ..ز وجهات تحمل البلاد على مراكب سياسية خطرة وتزج في الهوامش من سياسة الدولة الاجتماعية ما يتصل بمستقبل الأجيال الطالعة ، بخاصة فيتفاقم ثقل نفقات الدولة ويرزح الدين العام المتسارع النمو على كاهل اللبنانيين مذار بانهيار لا يبعد شبحه تأجيل حصوله سنة بعد سنة ، بل أن الإجراءات الميسرة لهذا التأجيل تتعثر هي نفسها بفعل هواجس الوصايا المتحكمة بموازين السياسة الداخلية وخوفها من تنامي أدوار خارجية أخرى في البلاد تسفر عنه المعالجات المعروضة. فكان أن بقيت معدلات الهجرة ، بعد الحرب على ما كانته في أعوام الحرب السوداء ، مع ضيق متزايد في آفاق الهجرة نفساً يؤرق الشبان والشابات في هذه البلاد ويحير الأسر. فإنما هو الغيظ من القهر – القهر الطائفي وغيره – ومن الاستباحة .. وإنما هو الرفض لتمادي الأسر في الخوف والرغبة في تحرير القدرة على معالجة معضلات المستقبل ما حمل هذه الأمواج البشرية على التدفق نحو وسط بيروت ، في يوم الحريري المشهود ، ثم لم ينقطع سليها وغلب عليها عنصر الشباب في ما تلاه من أيام . ومع أن المنظمات الشبابية المتفرعة من المتنظمات والتيارات السياسية قد بقيت محتلة صدارة التظاهرات والمبادرات ، فإن جمهوراً كبيراً من الشبان والشابات جعل هذه الحركة مجالا بكرا له للمشاركة في حمل الهم العام وللأقدام على الفعل السياسي ، معبرا على مدى الحركة بأساليب وطقوس مميزة ، عن أصالة تطلعاته . هذا الجمهور يدخل الميدان السياسي متخففا من أثقال سياسات حزبية وأساليب في العمل كانت الحرب قد غلبت عليها الصفة الطائفية وطبعتها بطابع من العنف الأهلي لا تزال تحمل بقاياه وما يترتب عليها من نوازع . فهو من هذه الجهة ، أمل يتعين على سائر المعنيين بمصير ديمقراطي للبنان أن يتبينوا ملامحه وشروط نموه وأن يعضدوه ويدافعوا عنه. 10-المقاومة هذه المسائل كلها يرعى معالجتها اتفاق الطائف . وهو يرعى أيضا معالجة موضوع المقاومة اللبنانية المسلحة للأحتلال الإسرائيلي. هو يرعاها من جهتين: أ. جهة الجلاء الإسرائيلي عن الأراضي اللبنانية وفقا لقرار مجلس الأمن الدولي 425. وكان هذا الجلاء في الأفق السياسي للرعاية الدولية التي حظي بها الاتفاق عند اقراره. ولكن الجلاء لم يتقق إلا بعد عشر سنوات وأشهر من هذا الإقرار اتصلت في اثنائها المقاومة اللبنانية للإحتلال وشهدت لحظات اقدام وظفر باهرين. وهي حظيت ايضاً بتضامن واسع من سائر اللبنانين على رغم انحصارها طوال التسعينات في جناح واحد من طائفة واحدة. وحظيت أخيرا – والبلاد معها – بحماية دولية فاعلة وصلت إلى أوجها مع اقرار تفاهم نسيان 1996. هذا وليس خطأ القول إن الانحصار المشأر إليه زاد من سعة التضامن من جهة وأدخل فيه التفاوت وحد من درجته ، من جهة أخرى. فقد كنا أمام حالة غير معتادة بأي مقياس ، هي نيابة جهاز ووسط حزبيين مرسومين بانتماء طائفي وحيد ، في اعمال المقاومة عن الشعب كله (وعن سائر الطائفة المقاومة أولا) وهذا مع ما في الشعب من كثرة جماعات طائفية وتنظيمات سياسية انحصر دورها (وانحصرت كلفة المقاومة على كل منها) في مهمة التأييد. وهو ما لا يبطله كون البلاد ، شعبا ودولة ، قد تحملت الكلفة العامة لحرب المقاومة ، على كل صعيد. ولم يتحقق هذا الحصر من تلقاء نفسه ولا كان بمنأي عن ضغوط المواجهة الاقليمية في صورتها حينذاك ، وأخصها ضغط الحلف السوري الايراني. فجاء الحصر ثمرة لمواجهات حزبية دامية تعددت ميادينها والأطراف وكانت من عداد فصول العنف الأهلي الأخيرة التي شهدتها نهايات الحرب. ب. ثانية الجهتين في معالجة اتفاق الطائف موضوع المقاومة المسلحة هي نص الاتفاق على حل المليشيات. وهو نص علق تطبيقه على المقاومة بحكم تأخر المجتمع الدولي عن إلزام اسرائيل بتطبيق القرار 425. وكان هذا التعليق مساويا للنص المذكور بنصوص أخرى من الاتفاق أرجئ انفاذها أو صرفت عن غايتها لأسباب مختلفة ، ولكنها لم تبطل . بل هي بقيت كلها واجبة الإنفاذ بحكم العقد الذي ارتضاه اللبنانيون ورعته الشرعيتان العربية والدولية مخرجا من الحرب . اليوم مضى على حصول التحرير نحو من خمس سنوات . وكان أول تحرير لأرض عربية احتلتها اسرائيل لم تصحبه املاءات اسرائيلية من أي نوع. وكان الفضل فيه لأعمال المقاومة التي تولاها ، على الجملة ، مقاتلو حزب الله ولم يبخلوا فيها بتضحية. وكان لهم الجميل بذلك على أهل الجنوب المحتل (وهم أهل كثرة منهم) وعلى سائر اللبنانين. وكان الفضل ثانيا للحنكة المؤكدة وللحكمة الاجمالية اللتين وسمتا مسلك قيادة حزب الله في هذا الصراع المعقد. وكان الفضل ثالثا لارتضاء اللبنانيين. شعبا ودولة كلفة التحرير على الصورة التي ذكرنا لهذا الارتضاء. وكان الفضل رابعا للدعم الذي لقيه حزب الله من سورية وإيران. وهو دعم حملهما عليه موقعهما من الصراع الدائر في الشرق الأوسط وحاجتهما الأيديولوجية – السياسية في داخل حدودهما وفي خارجها ، إلى حرب لم تخوضاها مباشرة بل أدرجتاها في مواجهتهما مع اسرائيل ووظفتاها في الصراع العام على المنطقة كلها مع بقاء كلفتها ومؤونتها عليهما في حدود مرسومة. وكان الفضل خامسا لما حاط المقاومة ولبنان من حماية سياسية دولية ظللتها شرعية الأمم المتحدة ولجمت تكرارا عدوانية القوة الاسرائيلية وحدت من مفاعيل تفوقها العسكري. وكان الفضل أخيراً لما استنهضته المقاومة من مبادرات الدعم عبر العالم. وهي مبادرات متنوعة عمد إليها افراد وجماعات لبنانيون وغير لبانيين مسلمون وغير مسلمين .
11-المقاومة بعد التحرير
اليوم تبدو أركان هذا الوضع الذي استظلته المقاومة وقد تهاوى بعضها فعلا وأدرك البعض الآخر ضعف متفاهم . وأول أركان الوضع المذكور بل أساسه إنما هو الاحتلال نفسه. لم ينس اللبنانيون بعد أن السلطتين اللبنانية والسورية استقبلتا التحرير ، حين لاحت بشائرها ، بحرج مريب ، وأنهما عدتاه حدثا مشؤوما. ولم ينس اللبنانيون بعد ما تكشف من بعد ، وهو أن السلطتين المذكورتين لم تغادرا هذا الحرج إلا حين وجدتا مخرجا لاستدامة الوظيفة الاقليمية للمقاومة – أي وظيفة " الورقة" – هو مسألة مزارع شبعا. ويعلم من يعلم من اللبانيين أن الدولة السورية كانت قد بسطت "سيادتها" الأخوية على هذه المزارع (اللبنانية من غير أنى شك) قبل حرب حزيران 1967 بنحو من عشر سنوات. ويعملون أن مجلس الأمن الدولي أدرج وضعها تحت القرار 242 حين احتلها إسرائيل في اعقاب تلك الحرب ، معتدا بـ" السيادة" السورية السورية المشار إليها . ويعلم من يعلم من اللبنانيين أن السلطتين السورية واللبنانية بذلتا وسعهما ، بعد تحرير الجنوب المحتل وقبله أيضاً ـ حتى يتعذر تحرير مزارع شبعا من إنفاذ القرار 425. فكان أن احجمتا احجاما مريبا عن ترسيم الحدود في تلك المنطقة وإيداع الأمم المتحدة ما تحتاج إليه من وثيقة وخريطة مصدقتين لتدرج "المزارع" في الجهة اللبنانية من الخط الأزرق : خط القرار 425 وخط التحرير والخط الذي يجب أن يطابق الحدود اللبنانية. ويذكر اللبنانيون أن الأمم المتحدة كانت جادة في فرض الرسم القانوني لهذا الخط إلى حد مكن لبنان من استرداد أراض كانت اسرائيل قد قضمتها سنة 1948..يذكر اللبنانيون أيضاً ان مسألة المزارع كانت مستغرقة المشهد كله حين أعلن حزب الله استمرار المقاومة. ويذكرون أن الحزب لم يعمد إلى تصدير أهداف من قبيل الحماية ورد العدوان وتحرير الأسرى إلا حين أخذ يبدو ، بين حين وأخر ، أن اسرائيل قد تعمد من جهتها إلى الانسحاب من مزارع شبعا طلبا لتسكين جبهتها اللبنانية وتلطيفا لضيق رأي عام دولي أغضبته (أو أحرجته) أفعال أخرى تقوم بها اسرائيل في ديار أخرى. أما حماية الأرض ورد العدوان وتحرير الأسرى فيعلم حزب الله (ويفترض أن يعلم سائر اللبنانيين) أنها من بين اختصاصات الدولة السيدة. وهذه اختصاصات لا يجوز للدولة أن تحيلها إلى تنظيم مسلح تدعه مرابطا على حدودها ولا تعد نفسها ولا يعدها القانونت الدولي ، ومن ورائه الرأي العام في الداخل والخارج ، مسؤولة عن أفعاله. وإنما هي ملزمة والبلاد معها ، وهي في حال عراء قانوني تام. بتحمل تبعات هذه الأفعال وعواقبها ، لا من جهة إسرائيل وحسب ( مع أن هذه يجب أن يحسب حسابها) بل من جهة الأمم المتحدة ومجتمع الدول أيضاً . ثمة حالة حرب بين لبنان واسرائيل وثمة اتفاق لبناني اسرائيلي صدق سنة 1949. وحين لا يبقى من احتلال لا يبقى غير هذا الاتفاق متوجب الانفاذ من الجهتين وتصبح الدولتان مسؤولتين مسؤولية تامة عن كل حامل بندقية يطلق طلقة عبر الحدود ، عسكريا كان أم مستوطنا في الجهة الاسرائلية أم " مقاوما " في الجهة اللبنانية. فأي عمل يسع المقاومة أن تقوم به إذ ذاك ولا يعرض الدولة ويحد من غائلة الرد على البلاد؟ إن كان هذا العمل حماية للحدود ودفاعاً عنها فهو مهمة الجيش (ليس له غيرها إلا استثناء ولا يسوغ وجوده غيرها أصلا). وإذا جاز للدولة أن تسلح قوة شبه عسكرية من الهالي تؤازر الجيش عند الضرورة ( وتسمى " الحرس الوطني" على سبيل المثال) فالدولة مسؤولة عنها وعن أفعالها مسؤوليتها عن الجيش نفسه وعن أفعاله . مثل هذا جائز ، حين تثبت الحاجة إليه. ولكن سيكون متعذرا اقناع اللبنانيين (ناهيك بغيرهم) أنه يجوز للدولة إيكال هذه المهمة إلى تنظيم حزبي ، وحيد الطائفة فوق حزبيته ، يسلحه غير الدولة ويفترش ، في الدولة بأوائلها ولا بأواخرها. سيكون متعذراً في هذه الحالة ، إقناع اللبنانيين (وغيرهم ابتداء من اسرائيل نفسها وانتهاء بالأمم المتحدة) بأن دولة هذه سيرتها هي ... دولة.
12-مشروع الدولة
اليوم يضع حزب الله مشروع الدولة في موضع الصدارة من تناوله حاضر البلاد المحتدم و مستقبلنا المرتجى .وهذا الكلام جدير بكل تقدير اذهو يشير الى شوط طويل طواه هذا الحزب في في عشرين سنة مضت على بروزه الى العلن :شوط اوصله من جهادية خمينية القدوة عابرة للحدود الوطنية في الثمانينات رافضة في اواخرها لاتفاق الطائف ، الى مشاركة في المؤسسة البرلمانية ابتداء من مطلع التسعينات ...و هي مشاركة شهدنا فيها النزعة الى حماية عمل المقاومة وقد غلبت النزعة تامقابلة الى الضلوع الشامل في سياسة الشؤن العامة الى ان وصل الحزب اليوم من الشوط نفسه الى شعار مشروع للدولة يراه متوجب الحماية .والحال اننا اليوم في ظرف يوجب مصارحة الحزب بان مشروع المقاومة المستمرة بات مفتقرا الى كل ما حاطه بالحماية حتى اليوم :أي الى مواءته مشروع الدولة في نظر اللبنانيين اولا و الى الشرعية الدولية التي انطلقت في لجمها القوة الاسرائيلية من واقع الاحتلال ومن قرارها القاضي بجلاء المحتل .هذا فضلا عن ان المسلكين السوري و الايراني في الصراع على الشرق الاوسط عادا لا يمثلان نموذج المجاهد الذي لا تلين له قناة و يصح ان يمتثل به مجاهدو الاقطار المحيطة في هبة واحدة شاملة .هما لا يبدوان ممثلين لهذا النموذج اذا اعتبرنا بالاختبارين الافغاني و العراقي و باختبار ايران في موضوع الطاقة النووية و باختبار سورية في الموضوع اللبناني اخيرا .و اللبنانيون ذوو حق ؤفي ان ينظروا في تلك الاختبارات و يتبينوا فيها بعضا من منطق الدولة ناهيك بمنطق مشروعها .و لا يقولن لنا الحزب ات هاتين دولتان و نحن كحركة شعبية .هذا يصح ما دمنا في حدود موقف سياسي يتوجه به الى الدولة .واما حمل السلاح فلا نراه شائعا في سورية و لا في ايران باليابة عن الدولة و خارج مسؤولياتها امام الداخل و امام الخارج .فهذا لا يستقيم الافي دولة محتلة او في دولة مستضعفة ،وقد كانت الدولة اللبنانية ،الى عام 2000 جامعة الصفتين معا فلم يبق منهما اليوم الا الثانية .بل ان فلسطين ،و هي لا تزال رازحة كلها تحت اعتى احتلال في عالم اليوم كله ،راحت المقاومة المسلحة فيها تتجه بفصائلها الرئيسية نحو تسليم امر التحرير الى السلطة المنتخبة مقرة لها بالحق في سياسة هذا الامر سياسة لا يعترضها العنف المقاوم او المعارض فتكبو عند كل محطة .فكيف سيسع حزبالله ان يجمع ما بين التعويل على اسضعاف الدولة اللبانية و الحرص على مشروع الدولة من غير ادخال البلاد في ظلمات انفجار او انهيار لا ينجو من ايهما هو ولا الدولة و لا البلاد .
13- القرار 1559اليوم بتنا مظللين بالقرار 1559 ، وهو قرار شق صفنا بعد ان نعمنا زمنا طويلا بظل القرار 425وكان مشتدا به ازرنا .وكان عجزنا عن مباشرة امورنا بانفسنا ،ونحن تحت ربقة النظام السوري ،وهو ما جر علينا الاقتحام الدولي لساحتنا .فان التمديد لرئيس الجمهورية الحالي ،و لا شيء غيره ،وكان عرضا سخيفا للقوةالسورية في ساحتنا و لقدرتها على اذلال ساستنا حالا و المقايضة بنا مالا ، هو ما نقل اوروبا من موقف الى موقف حيال مسالتنا و جعل منا بابا لتجديد ظهورها موحدة في الشرق الاوسط ،بعد انقسامها حول المسالة العراقية .فنقلنا بالتالي ،من قانون محاسبة سورية الى القرار 1559 ،وهو باب مفتوح لسلبنا مقاليد امورنا مرة اخرى و لجعل بلادنا –اذا اسلسنا القياد-قدوة في نظام شرق اوسط تحكمه اميركا و تتصدره اسرائيل .ونحن لايلائم دور القوة هذا سلامة علاقتنا في ما بيننا و لا مصالح بلادنا في محيطها القريب .تقع على عاتق حزب الله مسؤلية كبيرة هي مسؤلية تدبر العواقب المترتبة على هذا القرار وهي عواقب لا تتدبر بدعوة مجتمع الدول الى مبارزة على الارض اللبنانية .فان الاصرار السوري على التمديد لاميل لحود و الاعراض عن انتخاب مرشح من بين حفنة المرشحين ما كانوا الا ليبرزوه في مجاراة الهيمنة السورية انما هما اصرار و اعراض قابلان للتفسير وماهما باحجية .فقد كان في يد هذا الرئيس انجازان لم يؤثر له سواهما مما يجعل له ميزة سورية عن غيره .واولهما منواته العنيدة لرفيق الحريري من موقعه على راس الهرم الاستخباري-العسكري وثانيهما توفيره الحماية السياسية من موقعه على قمة الدولة لاستمرار خيار المقاومة المسلحة في الجنوب ،وهذا وفقا للرغبة السورية و تبعا لحاجته الى قاعدة سياسية امتنعت عليه في طائفته و حجبها عنه الحريري ،قبل غيره ،في الطائفة الثالثة الكبرى .لذا كانت تقع على حزبالله مسؤوليةكبيرة في تدارك الغلط الفادح الذي زجت فيه البلاد و استوى الحزب طرفا كبيرا بين اطرافه .وفي يد حزب الله وحده ،وقد اعتد طويلا باجماع اللبنانيين حول مقاومته الا يستوي موضوعا متصدرا للشقاق بين اللبنانيين ،وهو مرة اخرى ما يعرف الحزب من عهد طويل عاقبته عليه و على سائر اللبنانيين .
14- الإنطلاقة والعالم
نحن محتاجون الى رد هذه المواجهة الرهيبة عن شعبنا : المواجهة بين شطرين من شعبنا و المواجهة بين بلادنا و مجتمع الدول ، و هما ستكونان ، ان اعوزتنا الحكمة ،مواجهة واحدة .و نحن نعتقد ان في يدنا فرصة للنجاح بشرط الحكمة . هذه الفرصة هي نفسها الفرصة الوحيدة لمشروع الدولة و هي فرصة استوائنا دولة مستقلة .و هي فرصة ادى رفيق الحريري حياته ثمنا لها .فكان ان اخرجت الجريمة اللبنانيين من بيوتهم و اعمالهم و مدارسهم مانحين بلادهم فرصة هي هذه لا يجوز ان يضيعها السياسيون .و كان ان ادركت صورة انطلاق اللبنانيين من قمقم الصمت و المهانة اطراف عالم اخذ ينظر و يصغي ، لا بحكوماته و مرجعياته الدولية وحدها ،بل ببشره عامة . هذه الانطلاقة اللبنانية وهذان النظر و الاصغاء من العالم يمثلان مادة يتعين على اللبنانيين –على قواهم السياسية اولا-ان يصوغا منها سياسة لشانهم الوطني تدور فصولها في ما بينهم على مراى من العالم و مسمع ،و ان يدرأوا بهذه السياسة عبث الدول بمصيرهم . القرار 1559 ليس غير اتفاق الطائف في النص .لكنه غيره في المرجعية و السياق و العواقب .و لا يسع اللبنانيين ان يجبهوا احكام هذا القرار بالرفض الفاعل و لا بمجرد الخطابة .فان مفاعيل هذا الجبه انه يضعهم بعضا في وجه بعض و يقوض دولتهم شبه المفلسة اليوم .ولكن يسعهم ان يتبصروا في السياق و ان يبعدوا المرجعية ليتقوا العواقب .على ان الشرط لهذا-بعد استرداد الوحدة حول مصلحتهم الوطنية العليا –ان يبادروا الى تنفيذ الاحكام متفاهمين .فتلك هي المرحلة الاولى يقطعونها على طريق العودة الى التطبيق الطوعي لمل ابرموه في الطائف سنة 1989 و نحو الاستقلال الذي كثر افتقادهم له بعد 1943 و نحو نهاية حقة و مستحقة للحرب الاهلية .15-لنتجادل في رفيق الحريريأتاحت الفجيعة الوطنية برفيق الحريري هذا كله مع أن الرجل لم يكن بعيدا عن سياسات الحكم ، بعد الحرب ، وإنما كان في قلبها . فإذا جاز الحساب السياسي على لبناني عما آلت إليه أحوال الدولة اللبنانية ، بعد الحرب فإن رفيق الحريري . لو بقي بيننا ، لكان بين من كان يتوجب سؤالهم عما فعلوا وعما امتنع عليهم فعله . ولكن الرجل ، بما قيض له من امكانات شخصية وبما نسجه من علاقات في المجالين العربي والدولي وبما أبداه من عناية بإرزة بمستقبل عشرات الآلاف من الشباب وبما اقترن بإسمه من أعمال البناء والخدمة ، بعد الحرب ، كان قد استوى ، في ما وراء الجدل المتمادي الذي استثاره مشروعه وأساليبه ، فريقاً سياسياً تام الأهلية ، غير مدين بمكانته ولا بمعظمها لسلطان الوصاية . وهو لم يكن قد توانى عن مسايرة هذا السلطان ومداورته ومعاونته في المجال الدولي . ولكنه كان ذا مشروع سياسي واعماري للبنان ، مفتوح على توازنات المنطقة والعالم ، متنوع الموارد والأفاق ، غير محصور ، بالتالي ، بمنطق حاجات يفرضها وصي أخذ ، في الأعوام الأخيرة ، يزداد هلعاً من خسارة " ورقته اللبنانية " ومن نزوعها إلى الانزلاق من يده .وقد كان اللبنانيون مختلفي المواقف من رفيق الحريري ن رجل السياسة والحكم ، في حياته ، دائبين على المجادلة في حصاد تجربته في الحكم وأسلوبه في الأعمار ومرامي علاقاته ومغازي تصرفاته وأفاق توجهاته . وكان هذا الجدل شاهداً على أهمية الدور وفاعليته وعلى أن الرجل لم يكن ممن يردعون الجدل بإرهاب المجادلين . هذا الجدل يحتاج اللبنانيين ، أمس الاحتياج ، إلى مواصلته ليحسنوا قراءة تجربيتهم ، مجتمعا ودولة ، في عشرين سنة فاصلة من تاريخهم المعاصر .
16-من الساحة إلى الورقة وقد ذكرنا هلع الوصي من خسارة الورقة ، وكان لبنان الذي سمي " ساحة " في أعوام الحرب ، قد أخذ يسمى " ورقة " في أيام السعي إلى تسوية للنزاع العربي الاسرائيلي . وهذه سنة لا تزال جارجية ، في عرف الوصي وفي عرف البعض من ساستنا ، حتى الساعة . ومؤداها فهم التضامن بين الدولتين السورسية واللبنانية على أنه سياسة اقليمية ترسم في دمشق حصرا ويجوز فيها من الجهة السورية ما يعتبر مناسباً من التنازلات ولا يجوز فيها من الجهة اللبنانية غير تنفيذ التكليفات وتحمل التبعات .
17-شيء من توبة شيء من ذاكرة نقف نحن البنانين اليوم – أي بعد ما استثاره اغتيال رفيق الحريري من غضب في ساحتنا وعبر العالم – على أهبة للخروج من هذه الحقبة المهنية ويبدو أملنا في كسب الولاية على أنفسنا قريباً من متناول اليد . إن للبنان اليوم أن يعد نفسه موعوداً بالاستواء دولة مستقلة . ولكن الشرط الاول لنجاز هذا الوعد هو أن يحمله جمهور اللبنانيين الاوسع على محمل الصدق وأن يرتبوا له مقتضاه . وأولى الخطى إلى تحقيق هذا الشرط لأأن تكف الطبقة السياسية اللبنانية عن التفاخر والتنافر في شأن سيدة الدولة اللبنانية على بلادها ارضنا وشعبا ومؤسسات وهذا موقف يحتاج اتخاذه شيئاً من ذاكرة وشيئاً من توبة .وتفيد الذاكرة أن الاكثرين من هؤلاء السادة لم يصونوا عفتهم عن بيع السيادة تلك بثمن ما ، طائفي أو شخصي أو غير ذلك إن لم يكن في هذا الظرف ففي ذلك وإن لم يكن لسيد يبدو الان على أهبة الرحيل فلسيد مضي على رحيله أمد ولعله ترأوده شهوة العودة . لذا لم تكن السيادة مادة صالحة ، تاريخيا ، لمحاسبة الساسة اللبنانيين بعضهم بعضاً ( في هذه اللحظة أو في سواها ) . بل هي قد لا تكون مادة صالحة لمحاسبة جمهور اللبنانيين ساسته . ليس لجمهور اللبنانيين أن يدعى لنفسه البراءة من دم السيادة هذه ، ولا يكون إلا تدليساً منا عليه أن ندعيها له . وما نرانا ( ونحن منه ) نخشى عليه وعلى أنفسنا شرا من نقد النفس بل نخشى عليه ( ونحن منه ) من ندرة النقد أو غيبته .وأما التوبة فمؤداها اجتراح لقاء وطني حول فرصة اليوم ونحو أفق الغد . ولا يجترح اليوم شعب برئ من أوزار تاريخه ولا تجترح اليوم طبقة سياسية جديدة . للشعب باق اليوم وغدا والطبقة السياسية يفترض أن تثبت أو تتحول في صناديق الانتخابات ، إن يكن قريبها فالبعيد . ولكن يجترح اليوم لقاء وطني حول فرصة الدولة المستقلة .ومؤدى هذا عملياً أن يقؤ " المةوالون " بأن مرابطة قوات النظام السيوري في البلارد ومعها مكاتب استخبارتها وعدد تدخلها في نسيج السياسة والاجتماع اللبنانيين قد بلغت ختامها وأن يبنوا على هذه الواقعة وليس على وهم مناطحتها ولا على ما هو أدنى منها . فهذه واقعة لم تنشأ ضرورة البناء عليها من مفاعيل الحملة الدولية وحدها على رغم الوطاة الحاسمة لهذه المفاعيل . وإنما جاءت مسندة إلى كون أي جيش ترفض بقاءه في بلاد ما مثل هذه النسبة وهذه المروحة من أهل البلاد يمسي عاجزا عن مواصلة العسكرة السليمة فيما ولا يبقى أمامه غير أن يرحل .ومؤدى التذكر والتوبة ، من جهة " المعارضين " أن يقروا بعجزهم الكلي عن الانفراد بحكم البلاد حكما مستقرا تستقيهم به أمورها ولا تجعل " الدولة المستقلة " ، ما إن تولد ، أثرا بعد عين . فهذه البلاد كان ولا يزال وسيبقى فيها قوى وازنة ترى في المحيط العربي ( فضلاً عن تمسكها بسوية للعلاقات اللبنانية السورية تحلها في مقام الثابت الوطني ) قطبا لا بديل منه لمواجهة مساع للهيمنة – تمثلها الولايات المتحدة اليوم ومثلها غيرها في ما مضى – على هذا الاقليم من أقاليم العالم .نقول إن هذه القوى ستبقى . ونضيف أنها يجب أن تبقى لأن أضمحلالها أو عزلها لا يعزز استقلال لبنان بل هو قد يطيحه . وقد تتخذ الاطاحة ، اليوم أو غدا ، صورة التفاهم في صور التدخل الدولي ومفاعيله واشتداد الاستقطاب الداخلي المترتب عليه وتحول الظاهرتين إلى حلقة جهنمية وإلى بيئة لفواجع جديدة . لذا كنا محتاجين إلى بناء الضوابط الداخلية لهذين التدخل والاستقطاب لا إلى هدمها . ثم إن لبنان لا بد له من ضمانة من أهله وساسته ليسلم من مغاضبة شعوب محيطة به هي اليوم في أقصى الغضب من التنمر الاميركي ومن التجبر الاسرائيلي ، وأثقربها إلينا الشعبان السوري والفلسطيني . ولكن هذا التضامن المبني على الصالح المشترك واللازم لحفظ الاستقلال شيء والتضامن الاباحي المفتوح على ابطال مفصهوم الدولة وعلى فلسفة " الورقة " شيء اخر .نحتاج ‘لى لقاء وطني لأن بناء سياسة لدولة مستقلة تولد لنا محتاج إلى قاعدة عريضة من قوى هذه الدولة . وهو محتاج إلى فهم للاستقلال لا يعزل البلاد عن محيطها بل يرد الصحة إلى ما يربطها به ويدجها فيه . وهو محتاج في ما وراء ذلك إلى كسب الحرية في ادارة علاقات دولية وإقليمية متنوعة ، ذات مراتب وفيها أفضليات ، ولكنها قائمة على الحساب الحر وعلى اكراه المصلحة لا على إكراه القوة . فإن هذا هو الاستقلال ونحن نريد الاستقلال لأن الانتقال من تبعية إلى تبعية .
18-طوائف متخصصة : إن أخطر ما يلوح في أفق هذه المرحلة إنما هو ما ذكرنا من " ترجمة فورية " تحيل موازين المعركة السياسية الجارية إلى مزاوين قوى طائفية. فهل سنظل نرتضي أن نرى كل مواجهة بين أقطاب السلطة أو على قانون من قبل قانون الانتخاب أو على مطلب سياسي (ولو كان مطلب الاستقلال نفسه) أو على صيغة للإصلاح تجاري تطور الموازين السكانية أو الاجتماعية – الاقتصادية أو تطور الذهنيات في البلاد أو على صيغة للتحرير أو لرد العدوان عن البلاد تؤول فوراً – في ما وراء صور بسيطة أو معقدة من الأنكار والمداورة – على أنها مواجهة طائفية ترفع من شأن طائفة أو أكثر من طوائف البلاد وتحط من شأن طائفة أو أكثر؟ هل سنظل نوزع بين كفتي ميزان السلطة هذا (أو بين كفاته الكثيرة) مكونات المجتمع اللبنانية التاريخية ، وهي التي يفترض أن يحمي القانون حقوق أفرادها بما هم مواطنون وحقوقها بما هي جماعات مذهبية وشبكات اجتماعية؟ هل تطيق بلادنا أن تبقى مناسبات تداول السلطة والصيغ المعتمدة لتكوين مؤسسات الدولة ولسياستها الداخلية أو الخارجية مطايا لارتفاع هذه الطائفة ولانحطاط تلك وأسبابا لغبطة هذه ولهلع تلك. فيبدو الأمر وكأن في البلاد طائفة أو طوائف متخصصة في الاستقلاق وأخرى متخصصة في مكافحة الحرمان أو مقاومة العدوان والاحتلال وثالثة ضليعة ، دون غيرها ، في الانتخابات الحرة والنزيهة! أي كان اقتسام الدولة الذي استشرى مع نهاية الحرب ينحو نحو الاكتمال بتوزع مقوماتها الصلية واختصاصاتها الجامعة.
19-اتفاق الطائفذلك امر نراه مدعاة لاستذكار اتفاق الطائف الذي اعتمدته الجهتان المتواجهتان اليوم سقفا و خيمة .وهما اعلنتا احيانا رضوخهما لبنوده كافة .وكان تطبيق هذا الاتفاق قد بقي مفتوحا على التنازع السياسي – الطائفي ،شانه شان عمل مؤسسات الدولة و شان القوانين و شان الدستور نفسه أي شان كل ما يفترض انه حد للتنازع السياسي او الطائفي لا مسرح له و هذه حال يسرت على الدوام تقاسم كل ما هو عام في البلاد بين القوى السياسية الطائفية و شده قطعا تذهب كل منها الى جهة او صاحب و كان مؤدى هذا ضرب وحدة مجال الدولة و عموميته .هذه حال يسرت على الدوام ايضا نشوء سبكات خفية تقبع تحت مؤسسات الدولة متحللة من المنطق القانوني لعمل المؤسسات ،فكانت هذه الشبكات سبيلا الى اطلاق العنان لمنطق النفوذ و القوة المعتد بالزعامة الطائفية هنا و بحماية الشريك الخارجي هناك و بحصانة المنصب الرسمي هناك او بجميعها معا.و كانت مصالح هذه الشبكات موضوعا لتواطئها على هتك المؤسسات احيانا و لمبارزات علنية بينها تعرقل اعمال الدولة و تبطئ اجراءات تمليها الضرورة او تنحرف بها عن السكة المصلحة العامة او تمنعها احيانا اخرى .من بين هذه الشبكات تلك التي هتك تقرير بعثة الامم المتحدة لتقصي الحقائق ما كان بقي من ستر لعجزها عن اداء وظيفتها الاصلية .وهي وظيفة محصورة بامن الدولة و المواطنين بدت في التقرير و في الوقائع ،وما تزال تبدو في اعمال التفجير المتلاحقة فارغة ممن يملاها .بل ان التقرير قرن الى اثبات العجزاشارات مهولة الوقع الى افعال مرجحة لشبهة التطواطؤ فضلا عن فقدان النية و الارادة للقيام بعبء المسؤلية في مواجهة الجريمة .فكان من هذا التقريرانه نقل مطالبة المعارضة باقالة رؤساء الاجهزة الامنية من حال المطلب المعنوي الى حال الضرورة العملية لاجراء هيكلي مركب يتناول وضع الاجهزة برمتها،تنظيما و اداء و طبيعة التزام .في كل حال كان اتفاق الطائف قد لبث نصا دابت الاطراف اللبنانية على احداث خروق فاغرة في نسيجه .فوجد من كان قد نسي اعواما-على رغم كثرة المذكرين –ان الاتفاق قال بالانسحاب السوري و نظمه .ووجد من نسي نسيانا شاءهمؤبدا ان الاتفاق نفسه نص على الية للخروج من الطائفية السياسية .ووجد من تذكر هذا النص احيانا و لكن ليتخذه سكينا يهدد به الخصوم المذكرين بلزوم انسحاب القوات السورية وقيام الدولة السيدة .وكانت صفة السكين متحققة فعلا،موافقة لفرض التهديد لان تجاوزا للطائفية يلعب بموازينه الراعي السوري كان سيؤول الى كارثة لبنان .يبقى مع ذلك ان الشعور اللبناني بضرورة هذا التجاوز بقي قائما من دستور 1926 الى ميثاق 1943 الى اتفاق الطائف .وها ان الترجمة الفورية التي ذكرنا (وقبلها عورات اخرى كثيرة لهذا النظام يكادلا يتسع لها مقام )تردنا الى ضرورة ذلك التجاوز. ولكن ليؤذن لنا ايضا بالقول انه ما لم تتوقف الترجمة الفورية بانصراف اللبنانيين عن عتادها و تقاناتها و المختصين بها الى منطق اخر لنظامهم فان صون المكتسب من كل معركة يخوضونها سيكون متعذرا و ان مصير بنيانهم الوطني سيبقى رهينة لانفجار او لانهيار قد ياتي ادهى من الانفجار او يكون بين اسبابه .اليوم يواجه لبنان ، و هو في مهب ازمة عارمة اكثر من ضرورة واحدة قريبة .يواجه ضرورة سن قانون للانتخابات النيابية يصون حرياتها و يكفل نزاهتها بالتالي و هذا في ظل حكومة انتقالية قادرة تجتمع لها شروط الصيانة و الكفالة .و يواجه ضرورة الخروج من الانتخابات بحكومة وحدة وطنية تجتمع لها قاعدة كافية الاتساع لوضع هدف الاصلاح في النظام و الدولة في صورة برنامج يتناول كل صعيد :السياسة و الامن و الاجتماع و الاقتصاد و المال و النقد .هذه القاعدة الواسعة ضرورية ايضا لمواجهة ضغوط الخارج ، من اين اتت، على سياسة البلاد الاقليمية و لتجنيب هذه السياسة كل مغامرة تكسر الوحدة الداخلية .تلك كلها مطالب توافق اتفاق الطائف و نصه .ففي الاتفاق نص على اعتماد المحافظة دائرة انتخابية ،و هذا بعد تعديل التقسيم الاداري للبلاد في اتجاه الزيادة في عدد المحافظات .و هو نص لا يمنع اعتماد مبدا النسبية الذي تزكيه الضرورة الماثلة لتوسيع قاعدة التمثيل النيابي و الحؤول دون عزل أي من القوى السياسية ذات الاثر في مرحلة اقرار الاصلاحات المفروضة .و هذا يمنح قواما فعليا لحكومة الوحدة الوطنية التي ناط بها الاتفاق قيادة البلاد نحو الاصلاح.
و في الاتفاق ايضا رسم لمعالم الموقع الاقليمي اللبناني تقع في صدارته العلاقات المميزة بين لبنان و سورية و رفض توطين اللاجئين الفلسطينيين نهائيا في لبنان .و هذان الزامان يستجيب اولهما لروابط و مصالح اصيلة ليس لاي من الدولتين ان تحيد عن مسالكها و يبعد لبنان بخاصة عن اغراء الخضوع لضغوط اميركية اسرائيلية ظهرت بوادرها ،وهي تؤول الى زج لبنان في موقع من الصراع الاقليمي مناوىء للموقع السوري .هذا و يجب الا تعني محاذرة هذا الفخ رهنا مجددا لسيادة البلاد و لا على التخصيص خوض حروب بالسخرة نيابة عن النظام السوري :حروب تفضي لا الى تحقيق المصلحة المشتركة بل الى خراب لبنان لا غير .هذا الالزام المتصل بالعلاقات اللبنانية السورية يحمي ايضا وحدة اللبنانيين .و اما الزام رفض التوطين فهو يحمي هذه الوحدة ايضا و يرد عن البلاد اشباحا للتقسيم محتملة التجدد و هي نفسها اشباح الحرب الاهلية .وهو أي الالزام يجب الا يكون حائلا دون مساواة الفلسطينيين لجهة الحقوق المدنية و الاجتماعية بكل من هو مقيم شرعا على ارض لبنان من غير اللبنانيين .وفي المساواة هذه ما يمهد لتنسيق مع السلطة الوطنية الفلسطينية (حال الراعي السوري دون حصوله )وما يسهل بالتاي جمع السلاح من المخيمات فهذا السلاح قد امسى ،من زمن طويل ايضا عدة اقتتال و ارهاب اهليين لا اكثر و لا اقل .
أما اسماء الموقعين فهي التالية: أحمد بيضون، وادونيس ، وبول سالم، وجهاد الزين، وجورج دورليان، وحسن داوود، وحسام عيتاني، وخالد زيادة، ورغيد الصلح، وسليم نصر، وشفيق شعيب ، وعصام خليفة، وعباس بيضون ، وعزة شرارة ، وفاديا كيوان، وفهمية شرف الدين، ومرلين نصر، ومسعود يونس، ومنى فياض، ونبيل ابو شقرا، ويوسف معوض.
فادي عاكوم
GMT 16:00:00 2005 الأحد 1 مايو
فادي عاكوم من بيروت: أعلن المثقفون اللبنانيون رفضهم للسلطة غير العادلة التي تحبذ طائفة على اخرى أو ترفع إحداها وتستهين بالأخرى تماشيًا مع سياسات داخلية او خارجية،وتمنى المثقفون على الدولة اللبنانيةان تاخذ على عاتقها مسألة حماية الأرض والحدود ولا تترك الأمر بين أيدي تنظيم مسلح باعتبار انها والعالم غير مسؤولين عن افعاله. كما أعلنوا أن القرار 1559 لا يختلف عن اتفاق الطائف إلا في المرجعية والسياق والعواقب ولا يسع اللبنانيون ان يجابهوا القرار بالرفض الفاعل ولا بمجرد الخطابة حتى لا يتصارعوا فيما بينهم في ظل دولة مفلسة .جاء ذلك في وثيقة وقعها المثقفون اللبنانيون بعد جلسات عدة ووفق مراحل عدة تلت استشهاد رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان السابق في الرابع عشر من شباط (فبراير) 2005، وبعد توالي تداعيات هذه الجريمة النكراء التي نالت استنكار العالم أجمع، وفي ما يلي نص الوثيقة التي تتضمن أيضا تحليلا معمق لمظاهرات وسط بيروت، الشبيهة بالامواج البشرية المتدفقة، التي تلت مقتل االحريري والتي لم تكن في نظرهم سوى رفضًا للقهر والإذلال والظلم والتطلع الى مستقبل جديد.1-مفاعيل الجريمة :
لا تزال بلادنا تشهد ، فصلا بعد فصل ، عواقب الجريمة السياسية الكبرى التي أودت بركن من أركان الحياة السياسية اللبنانية في العقدين المنصرمين هو الرئيس رفيق الحريري وغيبت معه جماعة من مرافقيه ومن سائر المواطنين الامنين. وهي قد أصابت أيضاً مواطنين كثرا في اجسامهم أو في مساكنهم وأرزاقهم وأنزلت أضراراً في منشآت ومصالح كثيرة. ثم إنها نشرت مفاعيلها السامة إلى وجوه مختلفة من حياة المواطنين العادية وإلى ما تستقيم به هذه الحياة من أمن وعمل منتظم لمرافق المجتمع والدولة ، على اختلافها. في ما يتعدى ذلك كله ، أشرعت الجريمة البلاد لرياح أزمة سياسة بالغة الخطورة كانت نذرها تتجمع من مدة طويلة وكانت لفحاتها الأولى قد هبت علينا بقوة في غضون الأشهر القليلة السابقة. وهي أزمة واجهها ، بالنزول إلى الشوارع والساحات ، كثرة من اللبنانيين تنوعت مناشئها ومشاربها إلى حد خلت ذاكرة لبنان المستقل من نظير له. نزلت هذه الكثرة لترسم بشعاراتها الغالبة معالم تراها لمستقبل البلاد ، معلنة حقها في حمل المسؤولية عن مصيرها بعد نزعها من أيدي الاستبداد والفساد التي طال عبثها بمقدرات الدولة وبحقوق اللبنانيين كافة. كان من أمر هذه الجناية الفادحة ، بادئ ذي بدء ، أنها دفعت بمئات الألوف من اللبنانيين إلى قلب بيروت في موكب تشييع حزين وناقم لم تشهد له عاصمتنا مثيلاً ، على كثرة ما حافظت ذاكرتها من مواكب. وقد تلازم في الأصوات العالية المتجاوبة بين جنبات هذه الموكب وفي ما أسفر عنه من أعمال التظاهر والإعتصام مطلبان : أولهما جلاء حقيقة الجريمة من غير مماطلة ولا نص ولا تحرير ، ليترتب على هذا الأمر مقتضاه على كل صعيد ، وثانيهما رفع يد الهيمنة السورية عن الدولة والبلاد. ولقد أفضى ضغط التظاهر والاعتصام ، من بين ما أفضى إليه ، إلى سقوط الحكومة في الشارع. وكان من أمر الجناية نفسها ، أيضاً أنها قوت ووسعت إلى حد لم يسبق له مثيل ، هو الأخر مفاعيل الحملة الدولية الرامية إلى فرض انسحاب القوات السورية من لبنان وإنهاء هيمنة النظام السوري عليه. وهي حملة كانت قد بلغت ، قبل مدة غير قصيرة ، محطة أميركية تمثلت في استصدار القانون المسمى بـ"محاسبة سورية واستعادة سيادة لبنان". ثم بلغت ذروة جديدة في عشية التمديد المفروض فرضاً لرئيس الجمهورية الحالي مع اتخاذ مجلس الأمن الدولي القرار 1559 ، مبنياً على مبادرة اميركية فرنسية. فإذن ذلك على الأخص بدخول اوروبي جامع صحبته أيضاً أصوات عربية عديدة وصريحة ، إلى حلبة المطالبة بانسحاب القوات السورية من بلادنا. وقد شفع القرار الدولي هذا المطلب بأخر موضوعه نزع سلاح المليشات اللبنانية (ويقصد حزب الله) وغير اللبنانية (ويقصد الفلسطينية) . ثم كانت جريمة الإغتيال مناسبة لاتخاذ هذه الحملة صفة الالحاح وما يشبه الإنذار المتكرر للنظام السوري بلزوم الامتثال . واضطلت بذلك أصوات قوية متآزرة هي جملة الصوات الدولية ذات الأثر في ما جريات الصراع الدائر على ساحات المنطقة العربية . وكان من جراء هذا كله أصبح انسحاب القوات السورية وجهاز استخباراتها من بلادنا أمراً جارياً تنفيذه.
2-أن نصبح دولة مستقلة : وليس عندنا من ريب في أن الحملة الدولية التي شدت من أزر الحركة الشعبية اللبنانية وحمتها وحملتها على التشدد في صوغ مطلبيها الآنفى الذكر ، لا تستنفد غاياتها السياسية في ما يعلنه أصحابها من مطالب تتصل برفع يد الهيمنة السورية عن لبنان وبسيادة الدولة اللبنانية. وإنما هي حملة تفيض مراميها كثيراً عن النطاق اللبناني. هذه المرامي تختلف من جهة أولى ن باختلاف الأطراف المجتمعة في الحملة. غير أن مدارها الأوثق ، من جهة أخرى ، إنما هو رغبة الولايات المتحدة ، وهي في أوج رعايتها لمصالح اسرائيل ومطامحها ، في بسط سلطانها الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي على هذه المنطقة من العالم ، وهو ما يبدو تقزيم القوى الإقليمية وزعزعة " استقرارها" أو مواتها الدهري ، بالأحرى وسيلة راهنة بين وسائله. إن ما نبتغي التشديد عليه ، ونحن نستعيد هذا التشخيص (الشائع في كل حال) لدواعي الحملة الدولية ، هو أن الدفاع عن خيار آخر (معارض كليا أو جزئياً لوجهة التدخل الدولي الجاري) لا يستقيم مع الإصرار على هدر استقلال البلاد وايداعها "ورقة" في خزانة سلطان مفلس ولامع إباحتها لجراثيم الفساد المافيوي ، على كل مستوى ، أو مع ترك مواتزينها لفرق الاغتبال السياسي. بل أن اللبنانيين سيجزون عن مسندة القريب أو البعيد على استعادة حق أو حرية ما لم يكونوا هم أنفسهم أحراراً واقفين عند حقوقهم. لذا كان السؤال الذي يطرح في مواجهة هيمنة مقبلة تنذر بالحلول محل الراحلة إنما هو " كيف نصبح دولة مستقلة" وليس هو بحال " كيف نبقى ارضا وشعبا مباحين" ؟
3-حقوق لسورية حقوق للسوريين : لا نبيح لأنفسنا الغفلة عن مصالح سورية الوطنية ولا عن دور مؤكد في دعمها يمليه على الدولة والشعب اللبنانيين جوار وتاريخ ووشائح لاتحصى. فهذه في نهاية المطاف (وفي بدايته أيضاً ) حقوق السوريين لا حقوق النظام السوري. على أن هذا التسليم لا يحول بيننا وبين تعيين الصورة الواجبة لما يترتب علينا الآن ، نحن وأمثالنا من عامة اللبنانيين ، دعما لسورية. هذه الصورة نراها مجسمة ، بادئ ذي بدء ، في دعم الحركة الديمقراطية السورية. نراها مجسمة في موازرة الجهود التي يبذلها سوريون صمموا على التصدي لأسباب التهايف والخسارة في موقف نظام يطلب حقوق سورية الوطنية وهمه ، قبلها ، غل أيدي السوريين وكم أفواههم .. نظام يحول عرق السوريين إلى أتاوات يجنبها لزبانيته التي لم تشبعها سورية ولا كان اشبعها لبنان. ولقد ضرب لنا مثقفون سوريون مثالا لصورة الدعم تلك حين تبنوا ، في غمرة كفاحهم الصعب وظروفهم المرة ، حق شعبنا ودولتنا في وجه نظامهم. هذا بينما أساء إلى كل لبناني من تعرضوا بالقتل والأذى لسوريين قصدوا بلادنا لكسب اللقمة ، على غرار ما يتوزع أبناؤنا في مشارق الأرض ومغاربها وراء الغاية نفسها. فنحن ننظر إلى المناضلين من السوريين وإلى من أجرم من اللبنانيين ونعتبر. وهذه العبرة ترسم نظام قيمنا كله وخط سلوكنا كله في هذا الظرف الذي تجتازه بلادنا وفي كل ظرف آخر.
4-مبارزة من خراج هذا المنطق خرجت يوم الثامن من آذار محفوزة بتصميم معلن إثبات التفوق في الشارع وكسر احتكاره ، جموع أخرى غفيرة من اللبنانيين جمعها حزب الله وتنظيمات اخرى مجارية لسياسة النظام السوري في لبنان. مما أدى لتشدد على الجانب الثاني من إبعاد الأزمة ، أي على احتمال إفضاء التدخل الخارجي إلى تغيير الموقع اللبناني من الصراع العربي الإسرائيلي وعلى مطالبة الدولى المتدخلة لبنان بالعدول عن خيار المقاومة المسلحة. وقد أعرب الخطباء في هذه الجموع عن الشكر للدور الذي أدته سورية في لبنان على مدى ثلاثة عقود ن رافضين رفضاً قاطعا ما يخص الجانب اللبناني من القرار 1559 ، وهذا في الأيام التي كانت فيها الدولة السورية تعلن التزامها إياه وتباشر سحب قواتها من لبنان بموجبه. أخيراً شفعت القوى المتناظرة في ساحة رياض الصلح هذا كله بطلب الحوار مع المعرضة وبتبني الإصرار الجامع على كشف الحقائق المتصلة باغتيال رفيق الحريري ن ولكن من غير تلبث عن مطلب المعارضة المتعلق بشروط نزاهة التحقيق وفاعليته. ثم كان أن احتشدت في وسط بيروت ، مع مرور شهر على جريمة الاغتيال ، جماهير هائلة الأعداد تقاطرت من أرجاء البلاد ، لم يغب عن تلبيتها دعوة القوى المعارضة هم التفوق العددي على حشد الثامن من آذار والعودة ، بالتالي إلى فرض موقف المعارضة الإجمالي على أنه موقف الإكثرية من اللبنانيين. وهذا لأفي وجه جماهير القوى الموسومة بالـ"الموالاة" فحسب ، بل أيضاً في وجه حيازة هذه القوى أكثرية في مجلس النواب موروثة من عهد أخذ ينقضي ، ومع هذه الأكثرية بطبيعة الحال ، سيطرة على أجهزة أمنية وقضائية اتصف سلوكها تكراراً بالجنوح عن أصول عملها وبالتجاوز السياسي لحدود القوانين. ولقد كان للمعارضة ما أرادت لجهة ضخامة الحشد. ولكن هذا لم يبطل (ولا يجوز الظن أنه أبطل) انتشار حال من الشقاق السياسي – الأهلي في طول البلاد وعرضها. وهي حال لم يمنع التنوع الطائفي (والاجتماعي) على ضفتيها-تنوعا كان أظهر على ضفة المعارضة منه على الضفة الأخرى – أن تنسب إلى هويات طائفية متواجهة .. هويات تنزع المواجهة بينها إلى تعديل الموازين الطائفية المنصوبة في البلاد منذ نهاية الحرب.
5-الترجمة الفورية : هذا تشخيص يتغظ بالميل لصيغة النظام الطائفي نحو " ترجمة فورية" لكل أزمة سياسية إلى تباشير خلل في الميزان الطائفي وإلى استنفار طائفة أو طوائف ، بالتالي في وجهة طائفة أو طوائف أخرى. ففي بلادنا هذه ، لا نخرج عادة من أزمة ما بكلتة سياسة تقوي ونسلم بتفوقها وبأخرى تضعف ونتقبل تهالكها. وإنما نخرج في ما وراء المواجهة بين الكتل السياسية ، بطائفة أو طوائف تقوى وبأخرى تضعف. وهو ما يجعل الغنم والغرم يشملان سواء بسواء من ينتمي من أبناء طائفة معينة إلى قوة سياسية رابحة أو خاسرة ومن لا ينتمي إلى القوة المذكورة ، بأي وجه ، بل أيضاً من يناصبها العداء. فيقضي تحول الدولة من موقف إلى آخر في الصراع الاقليمي ، مثلاً إلى تهديد ما في يد هذه الطائفة وتعزيز ما في يد تلك لا من الحقوق فقط بل أيضاً من القدرة على تجاوز الحقوق والتمتع بثمار الباطل ويقضي هذا كله إلى استنفار جموع الطائفة خلف من ترى فيه – دون القوانين – حاميا للحق وترى فيه ، من وجه أخر حاميا للباطل. تلك قدرة عغلى الاستنفار عززتها الحرب وعشاياها ونشرتها إلى طوائف كانت فقيرة إليها في عهود مضت. فأصبحت للطوائف كافة أجهزة متنوعة ، سياسية واجتماعية (ناهيك بما صمد من الأجهزة العسكرية). وضعت هذه الأجهزة يدها على مصالح حيوية للمواطنين وتولت اداتها وغلبت توزعهم طوائف على كل توزع آخر وتوزعتهم كسورا من طوائف. فتعممت مصادرتها المواطنين في حقوقهم الفردية والجماعية ، سواء بسواء. وحصرت بينها حقهم في اختيار انتماءاتهم على أنواعها إلى حد لم يعرفه لبنان ما قبل الحرب. واتحد في فرض حصرية الولاء وفرض تلبية النداء وسائل للدولة صادرها ساسة الطوائف وأخرى قدمها الأقوياء في الجماعات المشحونة بتوتر الهويات وثالثة اغدقها حلفاء أو ولاة أمور من الخارج. فباتت الجماهير الطائفية الغفيرة تدعي فتنصاع ، وبات "تجييرها" في الانتخابات أو ضبطها في جهة من الصراع السياسي ثم نقلها من جهة إلى جهة – متى قضى بذلك تقدير القيادة – أموراً ميسورة على نطاق لم تعرفه البلاد من قبل. فوق ذلك بلغ النظام الطائفي "ذرى" جديدة تعطيله فاعلية المحاسبة الديمقراطية وتوزيعه الحماية على "مراجع " سياسية أدرجتها الحرب في شركة طائفية جديدة – قديمة ، جمعت بين توازن الأطراف وتنافسها. استبعدت المحاسبة على الفساد التفصيلي الذي طغى واستشرى ، إذ نظر إليها على أنها إخلال بمكانه " مرجع" ما ومن ثم بحصانه طائفة ما. وضخم إنفاق الدولة وهدر المال العام أنصبه متناظرة ، يغلب في توزيعها لا منطق المصلحة العامة وأولوياته ولا النظر إلى الضيق المطبق على إمكانات الدولة. بل منطق " الحقوق" المتقابلة للطوائف. وهي حقوق تختزل بدورها إلى حاجات "المراجع" نفسها من سياسة وشخصية. وأبيح رهن سيادة الدولة واختصاصاتها الأصلية لأمر الخارج. رهنت السيادة والاختصاصات على صورة الـ"أنصبة" الطائفية أيضاً ، عند " مرابين" وملتزمي تنظيمات أو كسور من طوائف تتواءم مصالحهم أو تتنازع على أرض البلاد. ويبقى ماثلاً في الأفق أن السلم الأهلي رهينة لهذين التواؤم والتنازع ولدرجات تحكم الخارج في محاسبية اللبنانيين. وفي الأزمة الجارية لم تخل الهواجس الطائفية من إقلاق لعلاقة التحالف المنسوجة بين القوى على كل من ضفتي المسرح السياسي المنصوب اليوم. وقد ظهر القلق على ضفة المعرضة خصوصاً، تبعاً لكون لكون توسعها إلى المدى الذي بلغته حديث الحصول ، حفزته ظروف التمديد لرئيس الجمهورية ثم الجريمة التي أودت برفيق الحريري. وهو توسع انتهى ببعض من القوى الطائفية إلى تغيير باغتها قبل أن يباغت سواها في قاموس الفاظها السياسية وفي الموروث من مسلمات مواقفها العامة. غير أن هذا التشخيص الطائفي تحد من مطابقته واقع الحال ، حتى الآن ، لهجة الاعتدال الاجمالي التي سادت المواجهة ، جازمة باستبعاد العنف وبإظهار الاعتبار من كل الجهتين لقوى الجهة الأخرى أو لأهمها ، في الأقل ومصرة على اتبقاء الأيدي ممدودة للحوار ، وهذا من غير أن يظهر تغيير ذو مؤدي عملي في صياغة الموقفين المتقابلين. يحد من صحة التشخيص الطائفي أيضاً حضور تيار شبابي ديمقراطي فعلا في الحركة الشعبية التي تتصدرها قوى المعارضة ، وكذلك مشروعية طموح الاستقلاليين إلى اعتبار الاستقلال مطلباً جامعاً ، وإن لم يتجل الإجماع عليه ، حتى تاريخه ، في صيغة سياسية ملموسة . التشخيص الطائفي عينه يمكن أن تزداد أسانيده قوة إذا اشتد التوتر وطال أمره. بل أن التوتر يمكن أن يؤثر أيضاً في الميزان الطائفي على كل من الضفتين في اتجاه اختصاره وتظهير صورته ، أي بالنتيجة في اتجاه الزيادة في خطورة المواجهة والانتقال بها إلى طور تعصي عواقبه على الضبط وتتخذ صورة الكارثة الوطنية. وهذا انتقال قد يعجل فيه ما يتوجس منه الناس ، في ظرف الأزمة المستحكمة ، من انهيار غير مستبعد للنقد الوطني وتزعزع لوضع الدولة المالي ومن تماد لحالة الجنوح أو القصور في المسؤولية السياسية والوظيفية عن الأمن. وذلك أن الانهيار الأول ينتقل الأزمة من صعيد إلى صعيد ، قبل أن تنتهي إلى مخرج وأن الجنوح والقصور الخيرين يتركان بأن التخريب مفتوحاً على مصراعيه .
6-الحقيقة شأن سياسي : فلعند بعد هذا إلى مطلبي الحركو الشعبية التي أطلقتها اغتيال رفيق الحريري. ليس المطلب الأول ، أي جلاء وقائع الحدث وغاياته وهوياته الآمرين والمخططين والمنفدين ، بالمطلب المصور على إحقاق حقوق شخصية أصلية ترعاها الشرائع كلها ، وهي حقوق الضحايا وإنما هو في ما وراء ذلك مطلب سياسي من الطراز الأول. فهو يلعن أن شعبا قد شهد من جرائم الاغتيال السياسي ما شهده في نحو من ثلاثين سنة قد طفح كيله من هندسة حياته السياسية بأفعال القتل. وهو يعبر عن إدراك لكون الاعتيال السياسي يكون في بعض حالاته (وهو قد كان يقينا في حالته الأخيرة هذه) عدوانا على شعب برمته أو نوعا من الحرب الأهلية المختصرة ، ولو ارتكتبه يد خارجية. فيبتغي تعديل موازين البلاد السياسية بأكملها أو يرمي إلى تجميد مسيرتها الاجمالية أو إلى تحوير محصلات الصراع السياسي فيها من طريق الفتك بإنسان واحد .
7-هندسة المسرح وأصول التمثيل : ولقد بقيت اليد الطولى في الشؤون اللبنانية متصلة ، طوال أعوام ما بعد الحرب ، بذراع الحضور العسكري السوري. وأصبحت هذه اليد متفرعة إلى أصابع لأجهزة سورية ولبنانية مؤتلفة ومتداخلة ومتوجة برؤوس سياسية مرعية المواقع والحرمات ومعروفة العناوين. ثم تطاولت عبر سنين من السعي الدائب فغدت لاتعف عن مستوى من مستويات الحياة اللبنانية ، أيا يكن فهي تدير في بلادنا شبكات من السياسيين وتلعب بالموازين بينهم لإدامة الضبط والولاء. وهي تدير شبكات أخرى للمراقبة والردع والقمع بما يتجاوز القانون أو يسخره لا يستثنى من بين ادواتها بعض القضاء. وهي تدير شبكات ثالثة إدارية ورابعة إعلامية وثقافية وخامسة مالية واقتصادية وهي تصل من المجتمع إلى تضاعيف كبيرة أو صغيرة من نسيج طوائف وعشائر وعائلات وتداخل مواقع التأثير في أحزاب ونقابات وجمعيات من كل نوع. فكان أن أفضت هذه الهيمنة إلى هندسة مجددة للمسرح السياسي اللبناني بمعظم عناصره ، متخذة الموازين الطائفية وسيلة سياسة لإرساء قواعد لنفسها. وكانت القاعدتان المرعيتان بمنتهى الحرص والحزم أ. ابقاء شرعية التمثيل المسيحي مطعونا فيها من جهة المسيحيين بإقصاء بعض من أبرز قادتهم بإقصاء بعض من ابرز قادتهم السياسيين عن الساحة ب. الحؤول دون نشوء احلاف بين قوى مسيحية وأخرى إسلامية معتبرة التمثيل.
8-حق الاختيار : وقد تارز في توطيد هاتين القاعدتين وغيرهما الخوف والمنفعة واللعب بالقوانين ، وبخاصة قوانين الانتخابات ، وبالتحالفات الانتخابية وبعمل مؤسسات الدولة وادارتها وبمؤسسات مختلفة في القطاع الخاص. أي أن الأرهاب المتعدد الوسائط اقترن بتوزيع مغانم الفساد بإضافة كافة. فباتت شبكة الهيمنة ، بخيوطها الغليظة والدقيقة ، تنتهي إلى تجميد جسيم لمفاعيل القانون : من كفالة للحقوق ومن زجر لهدرها وللعدوان عليها. فيصبح الولاء والرضوخ والامتثال والصمت ، ناهيك بتقبل السخرة السياسية وبدفع المال إذا وجد ، أثماناً يرديها المواطن كلما عرضت له حاجة يريد قضاءها ، بل كلما خشي أن تعرض له حاجة في مقبل الأيام. وتصبح هذه الاثمان كلها محتملة جدا لنيل الحق ومحتملة أيضاً لنيل الباطل ، على ما سلف تن حيث يكون موضوع شهوة. في هذه البيئة الرهيبة كلن يحكي عن انتخابات "حرة" تجري.. نيابية وبلدية ونقابية وغير ذلك. وكان المختصون يستغرقون في مناقشة مخالفات تحصل أو لا تحصل في أيام الموسم الانتخابي ن ويفرغون جهدهم في بحث تفاصيل القانون أو النظام. هذا بينما كانت حرية الاختيار مصادرة سلفا على نطاق بالغ الإتساع. فكان من يحمل مفاتيح الجنة ومفاتيح النار يعرف أن الأكثرين من المرشحين يتنافسون على مرضاته ، أولا وكان يعول على أنه حيث يوجد من يغاضبه أو من لايأبه لأوامره ونواهيه فإن الناخبين سيميزون من تلقاء انفسهم بين من يملك لهم كل الضر وكل النفع ومن ليس في يده من الأمر شيء. وإذا كانت هذه الشبكة المعقدة قد انبسطت على دولتنا ومجتمعنا انبساطا لم يعوزه الاستقرار ، مدة ما بعد الحرب وداخلتهما مداخلة لم تخل من الحكام ، فإن حصر المنافع الكبرى في رؤوس الشبكات وتوزيع الفتات على جماعات واسعة من اللبنانيين ثم الشح الذي أصاب الدولة الموغلة في ازمتها المالية كانت تترجم كلها تجريدا للبنانيين ، جملة من حقوقهم المفروضة لهم بالقانون وتعليقا لمصير وجوه كثيرة من حياتهم وحرياتهم وأعمالهم ومصالحهم على الامتثال لأوامر الشبكة ونواهيها. وهذا في مناخ من الاذلال نال من المواطنين الضعاف ولم ينج منه الزعماء المستقوون بسلطان مثقل بمنن الجوار وشروطه الباهظة .
9-الغيظ والانطلاقة : هذا إلى أن منطق الولويات الذي فرضته الهيمنة ورضخ له شركاوها اللبنانيون كان ينحرف بسياسة الدولة العامة إلى وجهات مريبة ..ز وجهات تحمل البلاد على مراكب سياسية خطرة وتزج في الهوامش من سياسة الدولة الاجتماعية ما يتصل بمستقبل الأجيال الطالعة ، بخاصة فيتفاقم ثقل نفقات الدولة ويرزح الدين العام المتسارع النمو على كاهل اللبنانيين مذار بانهيار لا يبعد شبحه تأجيل حصوله سنة بعد سنة ، بل أن الإجراءات الميسرة لهذا التأجيل تتعثر هي نفسها بفعل هواجس الوصايا المتحكمة بموازين السياسة الداخلية وخوفها من تنامي أدوار خارجية أخرى في البلاد تسفر عنه المعالجات المعروضة. فكان أن بقيت معدلات الهجرة ، بعد الحرب على ما كانته في أعوام الحرب السوداء ، مع ضيق متزايد في آفاق الهجرة نفساً يؤرق الشبان والشابات في هذه البلاد ويحير الأسر. فإنما هو الغيظ من القهر – القهر الطائفي وغيره – ومن الاستباحة .. وإنما هو الرفض لتمادي الأسر في الخوف والرغبة في تحرير القدرة على معالجة معضلات المستقبل ما حمل هذه الأمواج البشرية على التدفق نحو وسط بيروت ، في يوم الحريري المشهود ، ثم لم ينقطع سليها وغلب عليها عنصر الشباب في ما تلاه من أيام . ومع أن المنظمات الشبابية المتفرعة من المتنظمات والتيارات السياسية قد بقيت محتلة صدارة التظاهرات والمبادرات ، فإن جمهوراً كبيراً من الشبان والشابات جعل هذه الحركة مجالا بكرا له للمشاركة في حمل الهم العام وللأقدام على الفعل السياسي ، معبرا على مدى الحركة بأساليب وطقوس مميزة ، عن أصالة تطلعاته . هذا الجمهور يدخل الميدان السياسي متخففا من أثقال سياسات حزبية وأساليب في العمل كانت الحرب قد غلبت عليها الصفة الطائفية وطبعتها بطابع من العنف الأهلي لا تزال تحمل بقاياه وما يترتب عليها من نوازع . فهو من هذه الجهة ، أمل يتعين على سائر المعنيين بمصير ديمقراطي للبنان أن يتبينوا ملامحه وشروط نموه وأن يعضدوه ويدافعوا عنه. 10-المقاومة هذه المسائل كلها يرعى معالجتها اتفاق الطائف . وهو يرعى أيضا معالجة موضوع المقاومة اللبنانية المسلحة للأحتلال الإسرائيلي. هو يرعاها من جهتين: أ. جهة الجلاء الإسرائيلي عن الأراضي اللبنانية وفقا لقرار مجلس الأمن الدولي 425. وكان هذا الجلاء في الأفق السياسي للرعاية الدولية التي حظي بها الاتفاق عند اقراره. ولكن الجلاء لم يتقق إلا بعد عشر سنوات وأشهر من هذا الإقرار اتصلت في اثنائها المقاومة اللبنانية للإحتلال وشهدت لحظات اقدام وظفر باهرين. وهي حظيت ايضاً بتضامن واسع من سائر اللبنانين على رغم انحصارها طوال التسعينات في جناح واحد من طائفة واحدة. وحظيت أخيرا – والبلاد معها – بحماية دولية فاعلة وصلت إلى أوجها مع اقرار تفاهم نسيان 1996. هذا وليس خطأ القول إن الانحصار المشأر إليه زاد من سعة التضامن من جهة وأدخل فيه التفاوت وحد من درجته ، من جهة أخرى. فقد كنا أمام حالة غير معتادة بأي مقياس ، هي نيابة جهاز ووسط حزبيين مرسومين بانتماء طائفي وحيد ، في اعمال المقاومة عن الشعب كله (وعن سائر الطائفة المقاومة أولا) وهذا مع ما في الشعب من كثرة جماعات طائفية وتنظيمات سياسية انحصر دورها (وانحصرت كلفة المقاومة على كل منها) في مهمة التأييد. وهو ما لا يبطله كون البلاد ، شعبا ودولة ، قد تحملت الكلفة العامة لحرب المقاومة ، على كل صعيد. ولم يتحقق هذا الحصر من تلقاء نفسه ولا كان بمنأي عن ضغوط المواجهة الاقليمية في صورتها حينذاك ، وأخصها ضغط الحلف السوري الايراني. فجاء الحصر ثمرة لمواجهات حزبية دامية تعددت ميادينها والأطراف وكانت من عداد فصول العنف الأهلي الأخيرة التي شهدتها نهايات الحرب. ب. ثانية الجهتين في معالجة اتفاق الطائف موضوع المقاومة المسلحة هي نص الاتفاق على حل المليشيات. وهو نص علق تطبيقه على المقاومة بحكم تأخر المجتمع الدولي عن إلزام اسرائيل بتطبيق القرار 425. وكان هذا التعليق مساويا للنص المذكور بنصوص أخرى من الاتفاق أرجئ انفاذها أو صرفت عن غايتها لأسباب مختلفة ، ولكنها لم تبطل . بل هي بقيت كلها واجبة الإنفاذ بحكم العقد الذي ارتضاه اللبنانيون ورعته الشرعيتان العربية والدولية مخرجا من الحرب . اليوم مضى على حصول التحرير نحو من خمس سنوات . وكان أول تحرير لأرض عربية احتلتها اسرائيل لم تصحبه املاءات اسرائيلية من أي نوع. وكان الفضل فيه لأعمال المقاومة التي تولاها ، على الجملة ، مقاتلو حزب الله ولم يبخلوا فيها بتضحية. وكان لهم الجميل بذلك على أهل الجنوب المحتل (وهم أهل كثرة منهم) وعلى سائر اللبنانين. وكان الفضل ثانيا للحنكة المؤكدة وللحكمة الاجمالية اللتين وسمتا مسلك قيادة حزب الله في هذا الصراع المعقد. وكان الفضل ثالثا لارتضاء اللبنانيين. شعبا ودولة كلفة التحرير على الصورة التي ذكرنا لهذا الارتضاء. وكان الفضل رابعا للدعم الذي لقيه حزب الله من سورية وإيران. وهو دعم حملهما عليه موقعهما من الصراع الدائر في الشرق الأوسط وحاجتهما الأيديولوجية – السياسية في داخل حدودهما وفي خارجها ، إلى حرب لم تخوضاها مباشرة بل أدرجتاها في مواجهتهما مع اسرائيل ووظفتاها في الصراع العام على المنطقة كلها مع بقاء كلفتها ومؤونتها عليهما في حدود مرسومة. وكان الفضل خامسا لما حاط المقاومة ولبنان من حماية سياسية دولية ظللتها شرعية الأمم المتحدة ولجمت تكرارا عدوانية القوة الاسرائيلية وحدت من مفاعيل تفوقها العسكري. وكان الفضل أخيراً لما استنهضته المقاومة من مبادرات الدعم عبر العالم. وهي مبادرات متنوعة عمد إليها افراد وجماعات لبنانيون وغير لبانيين مسلمون وغير مسلمين .
11-المقاومة بعد التحرير
اليوم تبدو أركان هذا الوضع الذي استظلته المقاومة وقد تهاوى بعضها فعلا وأدرك البعض الآخر ضعف متفاهم . وأول أركان الوضع المذكور بل أساسه إنما هو الاحتلال نفسه. لم ينس اللبنانيون بعد أن السلطتين اللبنانية والسورية استقبلتا التحرير ، حين لاحت بشائرها ، بحرج مريب ، وأنهما عدتاه حدثا مشؤوما. ولم ينس اللبنانيون بعد ما تكشف من بعد ، وهو أن السلطتين المذكورتين لم تغادرا هذا الحرج إلا حين وجدتا مخرجا لاستدامة الوظيفة الاقليمية للمقاومة – أي وظيفة " الورقة" – هو مسألة مزارع شبعا. ويعلم من يعلم من اللبانيين أن الدولة السورية كانت قد بسطت "سيادتها" الأخوية على هذه المزارع (اللبنانية من غير أنى شك) قبل حرب حزيران 1967 بنحو من عشر سنوات. ويعملون أن مجلس الأمن الدولي أدرج وضعها تحت القرار 242 حين احتلها إسرائيل في اعقاب تلك الحرب ، معتدا بـ" السيادة" السورية السورية المشار إليها . ويعلم من يعلم من اللبنانيين أن السلطتين السورية واللبنانية بذلتا وسعهما ، بعد تحرير الجنوب المحتل وقبله أيضاً ـ حتى يتعذر تحرير مزارع شبعا من إنفاذ القرار 425. فكان أن احجمتا احجاما مريبا عن ترسيم الحدود في تلك المنطقة وإيداع الأمم المتحدة ما تحتاج إليه من وثيقة وخريطة مصدقتين لتدرج "المزارع" في الجهة اللبنانية من الخط الأزرق : خط القرار 425 وخط التحرير والخط الذي يجب أن يطابق الحدود اللبنانية. ويذكر اللبنانيون أن الأمم المتحدة كانت جادة في فرض الرسم القانوني لهذا الخط إلى حد مكن لبنان من استرداد أراض كانت اسرائيل قد قضمتها سنة 1948..يذكر اللبنانيون أيضاً ان مسألة المزارع كانت مستغرقة المشهد كله حين أعلن حزب الله استمرار المقاومة. ويذكرون أن الحزب لم يعمد إلى تصدير أهداف من قبيل الحماية ورد العدوان وتحرير الأسرى إلا حين أخذ يبدو ، بين حين وأخر ، أن اسرائيل قد تعمد من جهتها إلى الانسحاب من مزارع شبعا طلبا لتسكين جبهتها اللبنانية وتلطيفا لضيق رأي عام دولي أغضبته (أو أحرجته) أفعال أخرى تقوم بها اسرائيل في ديار أخرى. أما حماية الأرض ورد العدوان وتحرير الأسرى فيعلم حزب الله (ويفترض أن يعلم سائر اللبنانيين) أنها من بين اختصاصات الدولة السيدة. وهذه اختصاصات لا يجوز للدولة أن تحيلها إلى تنظيم مسلح تدعه مرابطا على حدودها ولا تعد نفسها ولا يعدها القانونت الدولي ، ومن ورائه الرأي العام في الداخل والخارج ، مسؤولة عن أفعاله. وإنما هي ملزمة والبلاد معها ، وهي في حال عراء قانوني تام. بتحمل تبعات هذه الأفعال وعواقبها ، لا من جهة إسرائيل وحسب ( مع أن هذه يجب أن يحسب حسابها) بل من جهة الأمم المتحدة ومجتمع الدول أيضاً . ثمة حالة حرب بين لبنان واسرائيل وثمة اتفاق لبناني اسرائيلي صدق سنة 1949. وحين لا يبقى من احتلال لا يبقى غير هذا الاتفاق متوجب الانفاذ من الجهتين وتصبح الدولتان مسؤولتين مسؤولية تامة عن كل حامل بندقية يطلق طلقة عبر الحدود ، عسكريا كان أم مستوطنا في الجهة الاسرائلية أم " مقاوما " في الجهة اللبنانية. فأي عمل يسع المقاومة أن تقوم به إذ ذاك ولا يعرض الدولة ويحد من غائلة الرد على البلاد؟ إن كان هذا العمل حماية للحدود ودفاعاً عنها فهو مهمة الجيش (ليس له غيرها إلا استثناء ولا يسوغ وجوده غيرها أصلا). وإذا جاز للدولة أن تسلح قوة شبه عسكرية من الهالي تؤازر الجيش عند الضرورة ( وتسمى " الحرس الوطني" على سبيل المثال) فالدولة مسؤولة عنها وعن أفعالها مسؤوليتها عن الجيش نفسه وعن أفعاله . مثل هذا جائز ، حين تثبت الحاجة إليه. ولكن سيكون متعذرا اقناع اللبنانيين (ناهيك بغيرهم) أنه يجوز للدولة إيكال هذه المهمة إلى تنظيم حزبي ، وحيد الطائفة فوق حزبيته ، يسلحه غير الدولة ويفترش ، في الدولة بأوائلها ولا بأواخرها. سيكون متعذراً في هذه الحالة ، إقناع اللبنانيين (وغيرهم ابتداء من اسرائيل نفسها وانتهاء بالأمم المتحدة) بأن دولة هذه سيرتها هي ... دولة.
12-مشروع الدولة
اليوم يضع حزب الله مشروع الدولة في موضع الصدارة من تناوله حاضر البلاد المحتدم و مستقبلنا المرتجى .وهذا الكلام جدير بكل تقدير اذهو يشير الى شوط طويل طواه هذا الحزب في في عشرين سنة مضت على بروزه الى العلن :شوط اوصله من جهادية خمينية القدوة عابرة للحدود الوطنية في الثمانينات رافضة في اواخرها لاتفاق الطائف ، الى مشاركة في المؤسسة البرلمانية ابتداء من مطلع التسعينات ...و هي مشاركة شهدنا فيها النزعة الى حماية عمل المقاومة وقد غلبت النزعة تامقابلة الى الضلوع الشامل في سياسة الشؤن العامة الى ان وصل الحزب اليوم من الشوط نفسه الى شعار مشروع للدولة يراه متوجب الحماية .والحال اننا اليوم في ظرف يوجب مصارحة الحزب بان مشروع المقاومة المستمرة بات مفتقرا الى كل ما حاطه بالحماية حتى اليوم :أي الى مواءته مشروع الدولة في نظر اللبنانيين اولا و الى الشرعية الدولية التي انطلقت في لجمها القوة الاسرائيلية من واقع الاحتلال ومن قرارها القاضي بجلاء المحتل .هذا فضلا عن ان المسلكين السوري و الايراني في الصراع على الشرق الاوسط عادا لا يمثلان نموذج المجاهد الذي لا تلين له قناة و يصح ان يمتثل به مجاهدو الاقطار المحيطة في هبة واحدة شاملة .هما لا يبدوان ممثلين لهذا النموذج اذا اعتبرنا بالاختبارين الافغاني و العراقي و باختبار ايران في موضوع الطاقة النووية و باختبار سورية في الموضوع اللبناني اخيرا .و اللبنانيون ذوو حق ؤفي ان ينظروا في تلك الاختبارات و يتبينوا فيها بعضا من منطق الدولة ناهيك بمنطق مشروعها .و لا يقولن لنا الحزب ات هاتين دولتان و نحن كحركة شعبية .هذا يصح ما دمنا في حدود موقف سياسي يتوجه به الى الدولة .واما حمل السلاح فلا نراه شائعا في سورية و لا في ايران باليابة عن الدولة و خارج مسؤولياتها امام الداخل و امام الخارج .فهذا لا يستقيم الافي دولة محتلة او في دولة مستضعفة ،وقد كانت الدولة اللبنانية ،الى عام 2000 جامعة الصفتين معا فلم يبق منهما اليوم الا الثانية .بل ان فلسطين ،و هي لا تزال رازحة كلها تحت اعتى احتلال في عالم اليوم كله ،راحت المقاومة المسلحة فيها تتجه بفصائلها الرئيسية نحو تسليم امر التحرير الى السلطة المنتخبة مقرة لها بالحق في سياسة هذا الامر سياسة لا يعترضها العنف المقاوم او المعارض فتكبو عند كل محطة .فكيف سيسع حزبالله ان يجمع ما بين التعويل على اسضعاف الدولة اللبانية و الحرص على مشروع الدولة من غير ادخال البلاد في ظلمات انفجار او انهيار لا ينجو من ايهما هو ولا الدولة و لا البلاد .
13- القرار 1559اليوم بتنا مظللين بالقرار 1559 ، وهو قرار شق صفنا بعد ان نعمنا زمنا طويلا بظل القرار 425وكان مشتدا به ازرنا .وكان عجزنا عن مباشرة امورنا بانفسنا ،ونحن تحت ربقة النظام السوري ،وهو ما جر علينا الاقتحام الدولي لساحتنا .فان التمديد لرئيس الجمهورية الحالي ،و لا شيء غيره ،وكان عرضا سخيفا للقوةالسورية في ساحتنا و لقدرتها على اذلال ساستنا حالا و المقايضة بنا مالا ، هو ما نقل اوروبا من موقف الى موقف حيال مسالتنا و جعل منا بابا لتجديد ظهورها موحدة في الشرق الاوسط ،بعد انقسامها حول المسالة العراقية .فنقلنا بالتالي ،من قانون محاسبة سورية الى القرار 1559 ،وهو باب مفتوح لسلبنا مقاليد امورنا مرة اخرى و لجعل بلادنا –اذا اسلسنا القياد-قدوة في نظام شرق اوسط تحكمه اميركا و تتصدره اسرائيل .ونحن لايلائم دور القوة هذا سلامة علاقتنا في ما بيننا و لا مصالح بلادنا في محيطها القريب .تقع على عاتق حزب الله مسؤلية كبيرة هي مسؤلية تدبر العواقب المترتبة على هذا القرار وهي عواقب لا تتدبر بدعوة مجتمع الدول الى مبارزة على الارض اللبنانية .فان الاصرار السوري على التمديد لاميل لحود و الاعراض عن انتخاب مرشح من بين حفنة المرشحين ما كانوا الا ليبرزوه في مجاراة الهيمنة السورية انما هما اصرار و اعراض قابلان للتفسير وماهما باحجية .فقد كان في يد هذا الرئيس انجازان لم يؤثر له سواهما مما يجعل له ميزة سورية عن غيره .واولهما منواته العنيدة لرفيق الحريري من موقعه على راس الهرم الاستخباري-العسكري وثانيهما توفيره الحماية السياسية من موقعه على قمة الدولة لاستمرار خيار المقاومة المسلحة في الجنوب ،وهذا وفقا للرغبة السورية و تبعا لحاجته الى قاعدة سياسية امتنعت عليه في طائفته و حجبها عنه الحريري ،قبل غيره ،في الطائفة الثالثة الكبرى .لذا كانت تقع على حزبالله مسؤوليةكبيرة في تدارك الغلط الفادح الذي زجت فيه البلاد و استوى الحزب طرفا كبيرا بين اطرافه .وفي يد حزب الله وحده ،وقد اعتد طويلا باجماع اللبنانيين حول مقاومته الا يستوي موضوعا متصدرا للشقاق بين اللبنانيين ،وهو مرة اخرى ما يعرف الحزب من عهد طويل عاقبته عليه و على سائر اللبنانيين .
14- الإنطلاقة والعالم
نحن محتاجون الى رد هذه المواجهة الرهيبة عن شعبنا : المواجهة بين شطرين من شعبنا و المواجهة بين بلادنا و مجتمع الدول ، و هما ستكونان ، ان اعوزتنا الحكمة ،مواجهة واحدة .و نحن نعتقد ان في يدنا فرصة للنجاح بشرط الحكمة . هذه الفرصة هي نفسها الفرصة الوحيدة لمشروع الدولة و هي فرصة استوائنا دولة مستقلة .و هي فرصة ادى رفيق الحريري حياته ثمنا لها .فكان ان اخرجت الجريمة اللبنانيين من بيوتهم و اعمالهم و مدارسهم مانحين بلادهم فرصة هي هذه لا يجوز ان يضيعها السياسيون .و كان ان ادركت صورة انطلاق اللبنانيين من قمقم الصمت و المهانة اطراف عالم اخذ ينظر و يصغي ، لا بحكوماته و مرجعياته الدولية وحدها ،بل ببشره عامة . هذه الانطلاقة اللبنانية وهذان النظر و الاصغاء من العالم يمثلان مادة يتعين على اللبنانيين –على قواهم السياسية اولا-ان يصوغا منها سياسة لشانهم الوطني تدور فصولها في ما بينهم على مراى من العالم و مسمع ،و ان يدرأوا بهذه السياسة عبث الدول بمصيرهم . القرار 1559 ليس غير اتفاق الطائف في النص .لكنه غيره في المرجعية و السياق و العواقب .و لا يسع اللبنانيين ان يجبهوا احكام هذا القرار بالرفض الفاعل و لا بمجرد الخطابة .فان مفاعيل هذا الجبه انه يضعهم بعضا في وجه بعض و يقوض دولتهم شبه المفلسة اليوم .ولكن يسعهم ان يتبصروا في السياق و ان يبعدوا المرجعية ليتقوا العواقب .على ان الشرط لهذا-بعد استرداد الوحدة حول مصلحتهم الوطنية العليا –ان يبادروا الى تنفيذ الاحكام متفاهمين .فتلك هي المرحلة الاولى يقطعونها على طريق العودة الى التطبيق الطوعي لمل ابرموه في الطائف سنة 1989 و نحو الاستقلال الذي كثر افتقادهم له بعد 1943 و نحو نهاية حقة و مستحقة للحرب الاهلية .15-لنتجادل في رفيق الحريريأتاحت الفجيعة الوطنية برفيق الحريري هذا كله مع أن الرجل لم يكن بعيدا عن سياسات الحكم ، بعد الحرب ، وإنما كان في قلبها . فإذا جاز الحساب السياسي على لبناني عما آلت إليه أحوال الدولة اللبنانية ، بعد الحرب فإن رفيق الحريري . لو بقي بيننا ، لكان بين من كان يتوجب سؤالهم عما فعلوا وعما امتنع عليهم فعله . ولكن الرجل ، بما قيض له من امكانات شخصية وبما نسجه من علاقات في المجالين العربي والدولي وبما أبداه من عناية بإرزة بمستقبل عشرات الآلاف من الشباب وبما اقترن بإسمه من أعمال البناء والخدمة ، بعد الحرب ، كان قد استوى ، في ما وراء الجدل المتمادي الذي استثاره مشروعه وأساليبه ، فريقاً سياسياً تام الأهلية ، غير مدين بمكانته ولا بمعظمها لسلطان الوصاية . وهو لم يكن قد توانى عن مسايرة هذا السلطان ومداورته ومعاونته في المجال الدولي . ولكنه كان ذا مشروع سياسي واعماري للبنان ، مفتوح على توازنات المنطقة والعالم ، متنوع الموارد والأفاق ، غير محصور ، بالتالي ، بمنطق حاجات يفرضها وصي أخذ ، في الأعوام الأخيرة ، يزداد هلعاً من خسارة " ورقته اللبنانية " ومن نزوعها إلى الانزلاق من يده .وقد كان اللبنانيون مختلفي المواقف من رفيق الحريري ن رجل السياسة والحكم ، في حياته ، دائبين على المجادلة في حصاد تجربته في الحكم وأسلوبه في الأعمار ومرامي علاقاته ومغازي تصرفاته وأفاق توجهاته . وكان هذا الجدل شاهداً على أهمية الدور وفاعليته وعلى أن الرجل لم يكن ممن يردعون الجدل بإرهاب المجادلين . هذا الجدل يحتاج اللبنانيين ، أمس الاحتياج ، إلى مواصلته ليحسنوا قراءة تجربيتهم ، مجتمعا ودولة ، في عشرين سنة فاصلة من تاريخهم المعاصر .
16-من الساحة إلى الورقة وقد ذكرنا هلع الوصي من خسارة الورقة ، وكان لبنان الذي سمي " ساحة " في أعوام الحرب ، قد أخذ يسمى " ورقة " في أيام السعي إلى تسوية للنزاع العربي الاسرائيلي . وهذه سنة لا تزال جارجية ، في عرف الوصي وفي عرف البعض من ساستنا ، حتى الساعة . ومؤداها فهم التضامن بين الدولتين السورسية واللبنانية على أنه سياسة اقليمية ترسم في دمشق حصرا ويجوز فيها من الجهة السورية ما يعتبر مناسباً من التنازلات ولا يجوز فيها من الجهة اللبنانية غير تنفيذ التكليفات وتحمل التبعات .
17-شيء من توبة شيء من ذاكرة نقف نحن البنانين اليوم – أي بعد ما استثاره اغتيال رفيق الحريري من غضب في ساحتنا وعبر العالم – على أهبة للخروج من هذه الحقبة المهنية ويبدو أملنا في كسب الولاية على أنفسنا قريباً من متناول اليد . إن للبنان اليوم أن يعد نفسه موعوداً بالاستواء دولة مستقلة . ولكن الشرط الاول لنجاز هذا الوعد هو أن يحمله جمهور اللبنانيين الاوسع على محمل الصدق وأن يرتبوا له مقتضاه . وأولى الخطى إلى تحقيق هذا الشرط لأأن تكف الطبقة السياسية اللبنانية عن التفاخر والتنافر في شأن سيدة الدولة اللبنانية على بلادها ارضنا وشعبا ومؤسسات وهذا موقف يحتاج اتخاذه شيئاً من ذاكرة وشيئاً من توبة .وتفيد الذاكرة أن الاكثرين من هؤلاء السادة لم يصونوا عفتهم عن بيع السيادة تلك بثمن ما ، طائفي أو شخصي أو غير ذلك إن لم يكن في هذا الظرف ففي ذلك وإن لم يكن لسيد يبدو الان على أهبة الرحيل فلسيد مضي على رحيله أمد ولعله ترأوده شهوة العودة . لذا لم تكن السيادة مادة صالحة ، تاريخيا ، لمحاسبة الساسة اللبنانيين بعضهم بعضاً ( في هذه اللحظة أو في سواها ) . بل هي قد لا تكون مادة صالحة لمحاسبة جمهور اللبنانيين ساسته . ليس لجمهور اللبنانيين أن يدعى لنفسه البراءة من دم السيادة هذه ، ولا يكون إلا تدليساً منا عليه أن ندعيها له . وما نرانا ( ونحن منه ) نخشى عليه وعلى أنفسنا شرا من نقد النفس بل نخشى عليه ( ونحن منه ) من ندرة النقد أو غيبته .وأما التوبة فمؤداها اجتراح لقاء وطني حول فرصة اليوم ونحو أفق الغد . ولا يجترح اليوم شعب برئ من أوزار تاريخه ولا تجترح اليوم طبقة سياسية جديدة . للشعب باق اليوم وغدا والطبقة السياسية يفترض أن تثبت أو تتحول في صناديق الانتخابات ، إن يكن قريبها فالبعيد . ولكن يجترح اليوم لقاء وطني حول فرصة الدولة المستقلة .ومؤدى هذا عملياً أن يقؤ " المةوالون " بأن مرابطة قوات النظام السيوري في البلارد ومعها مكاتب استخبارتها وعدد تدخلها في نسيج السياسة والاجتماع اللبنانيين قد بلغت ختامها وأن يبنوا على هذه الواقعة وليس على وهم مناطحتها ولا على ما هو أدنى منها . فهذه واقعة لم تنشأ ضرورة البناء عليها من مفاعيل الحملة الدولية وحدها على رغم الوطاة الحاسمة لهذه المفاعيل . وإنما جاءت مسندة إلى كون أي جيش ترفض بقاءه في بلاد ما مثل هذه النسبة وهذه المروحة من أهل البلاد يمسي عاجزا عن مواصلة العسكرة السليمة فيما ولا يبقى أمامه غير أن يرحل .ومؤدى التذكر والتوبة ، من جهة " المعارضين " أن يقروا بعجزهم الكلي عن الانفراد بحكم البلاد حكما مستقرا تستقيهم به أمورها ولا تجعل " الدولة المستقلة " ، ما إن تولد ، أثرا بعد عين . فهذه البلاد كان ولا يزال وسيبقى فيها قوى وازنة ترى في المحيط العربي ( فضلاً عن تمسكها بسوية للعلاقات اللبنانية السورية تحلها في مقام الثابت الوطني ) قطبا لا بديل منه لمواجهة مساع للهيمنة – تمثلها الولايات المتحدة اليوم ومثلها غيرها في ما مضى – على هذا الاقليم من أقاليم العالم .نقول إن هذه القوى ستبقى . ونضيف أنها يجب أن تبقى لأن أضمحلالها أو عزلها لا يعزز استقلال لبنان بل هو قد يطيحه . وقد تتخذ الاطاحة ، اليوم أو غدا ، صورة التفاهم في صور التدخل الدولي ومفاعيله واشتداد الاستقطاب الداخلي المترتب عليه وتحول الظاهرتين إلى حلقة جهنمية وإلى بيئة لفواجع جديدة . لذا كنا محتاجين إلى بناء الضوابط الداخلية لهذين التدخل والاستقطاب لا إلى هدمها . ثم إن لبنان لا بد له من ضمانة من أهله وساسته ليسلم من مغاضبة شعوب محيطة به هي اليوم في أقصى الغضب من التنمر الاميركي ومن التجبر الاسرائيلي ، وأثقربها إلينا الشعبان السوري والفلسطيني . ولكن هذا التضامن المبني على الصالح المشترك واللازم لحفظ الاستقلال شيء والتضامن الاباحي المفتوح على ابطال مفصهوم الدولة وعلى فلسفة " الورقة " شيء اخر .نحتاج ‘لى لقاء وطني لأن بناء سياسة لدولة مستقلة تولد لنا محتاج إلى قاعدة عريضة من قوى هذه الدولة . وهو محتاج إلى فهم للاستقلال لا يعزل البلاد عن محيطها بل يرد الصحة إلى ما يربطها به ويدجها فيه . وهو محتاج في ما وراء ذلك إلى كسب الحرية في ادارة علاقات دولية وإقليمية متنوعة ، ذات مراتب وفيها أفضليات ، ولكنها قائمة على الحساب الحر وعلى اكراه المصلحة لا على إكراه القوة . فإن هذا هو الاستقلال ونحن نريد الاستقلال لأن الانتقال من تبعية إلى تبعية .
18-طوائف متخصصة : إن أخطر ما يلوح في أفق هذه المرحلة إنما هو ما ذكرنا من " ترجمة فورية " تحيل موازين المعركة السياسية الجارية إلى مزاوين قوى طائفية. فهل سنظل نرتضي أن نرى كل مواجهة بين أقطاب السلطة أو على قانون من قبل قانون الانتخاب أو على مطلب سياسي (ولو كان مطلب الاستقلال نفسه) أو على صيغة للإصلاح تجاري تطور الموازين السكانية أو الاجتماعية – الاقتصادية أو تطور الذهنيات في البلاد أو على صيغة للتحرير أو لرد العدوان عن البلاد تؤول فوراً – في ما وراء صور بسيطة أو معقدة من الأنكار والمداورة – على أنها مواجهة طائفية ترفع من شأن طائفة أو أكثر من طوائف البلاد وتحط من شأن طائفة أو أكثر؟ هل سنظل نوزع بين كفتي ميزان السلطة هذا (أو بين كفاته الكثيرة) مكونات المجتمع اللبنانية التاريخية ، وهي التي يفترض أن يحمي القانون حقوق أفرادها بما هم مواطنون وحقوقها بما هي جماعات مذهبية وشبكات اجتماعية؟ هل تطيق بلادنا أن تبقى مناسبات تداول السلطة والصيغ المعتمدة لتكوين مؤسسات الدولة ولسياستها الداخلية أو الخارجية مطايا لارتفاع هذه الطائفة ولانحطاط تلك وأسبابا لغبطة هذه ولهلع تلك. فيبدو الأمر وكأن في البلاد طائفة أو طوائف متخصصة في الاستقلاق وأخرى متخصصة في مكافحة الحرمان أو مقاومة العدوان والاحتلال وثالثة ضليعة ، دون غيرها ، في الانتخابات الحرة والنزيهة! أي كان اقتسام الدولة الذي استشرى مع نهاية الحرب ينحو نحو الاكتمال بتوزع مقوماتها الصلية واختصاصاتها الجامعة.
19-اتفاق الطائفذلك امر نراه مدعاة لاستذكار اتفاق الطائف الذي اعتمدته الجهتان المتواجهتان اليوم سقفا و خيمة .وهما اعلنتا احيانا رضوخهما لبنوده كافة .وكان تطبيق هذا الاتفاق قد بقي مفتوحا على التنازع السياسي – الطائفي ،شانه شان عمل مؤسسات الدولة و شان القوانين و شان الدستور نفسه أي شان كل ما يفترض انه حد للتنازع السياسي او الطائفي لا مسرح له و هذه حال يسرت على الدوام تقاسم كل ما هو عام في البلاد بين القوى السياسية الطائفية و شده قطعا تذهب كل منها الى جهة او صاحب و كان مؤدى هذا ضرب وحدة مجال الدولة و عموميته .هذه حال يسرت على الدوام ايضا نشوء سبكات خفية تقبع تحت مؤسسات الدولة متحللة من المنطق القانوني لعمل المؤسسات ،فكانت هذه الشبكات سبيلا الى اطلاق العنان لمنطق النفوذ و القوة المعتد بالزعامة الطائفية هنا و بحماية الشريك الخارجي هناك و بحصانة المنصب الرسمي هناك او بجميعها معا.و كانت مصالح هذه الشبكات موضوعا لتواطئها على هتك المؤسسات احيانا و لمبارزات علنية بينها تعرقل اعمال الدولة و تبطئ اجراءات تمليها الضرورة او تنحرف بها عن السكة المصلحة العامة او تمنعها احيانا اخرى .من بين هذه الشبكات تلك التي هتك تقرير بعثة الامم المتحدة لتقصي الحقائق ما كان بقي من ستر لعجزها عن اداء وظيفتها الاصلية .وهي وظيفة محصورة بامن الدولة و المواطنين بدت في التقرير و في الوقائع ،وما تزال تبدو في اعمال التفجير المتلاحقة فارغة ممن يملاها .بل ان التقرير قرن الى اثبات العجزاشارات مهولة الوقع الى افعال مرجحة لشبهة التطواطؤ فضلا عن فقدان النية و الارادة للقيام بعبء المسؤلية في مواجهة الجريمة .فكان من هذا التقريرانه نقل مطالبة المعارضة باقالة رؤساء الاجهزة الامنية من حال المطلب المعنوي الى حال الضرورة العملية لاجراء هيكلي مركب يتناول وضع الاجهزة برمتها،تنظيما و اداء و طبيعة التزام .في كل حال كان اتفاق الطائف قد لبث نصا دابت الاطراف اللبنانية على احداث خروق فاغرة في نسيجه .فوجد من كان قد نسي اعواما-على رغم كثرة المذكرين –ان الاتفاق قال بالانسحاب السوري و نظمه .ووجد من نسي نسيانا شاءهمؤبدا ان الاتفاق نفسه نص على الية للخروج من الطائفية السياسية .ووجد من تذكر هذا النص احيانا و لكن ليتخذه سكينا يهدد به الخصوم المذكرين بلزوم انسحاب القوات السورية وقيام الدولة السيدة .وكانت صفة السكين متحققة فعلا،موافقة لفرض التهديد لان تجاوزا للطائفية يلعب بموازينه الراعي السوري كان سيؤول الى كارثة لبنان .يبقى مع ذلك ان الشعور اللبناني بضرورة هذا التجاوز بقي قائما من دستور 1926 الى ميثاق 1943 الى اتفاق الطائف .وها ان الترجمة الفورية التي ذكرنا (وقبلها عورات اخرى كثيرة لهذا النظام يكادلا يتسع لها مقام )تردنا الى ضرورة ذلك التجاوز. ولكن ليؤذن لنا ايضا بالقول انه ما لم تتوقف الترجمة الفورية بانصراف اللبنانيين عن عتادها و تقاناتها و المختصين بها الى منطق اخر لنظامهم فان صون المكتسب من كل معركة يخوضونها سيكون متعذرا و ان مصير بنيانهم الوطني سيبقى رهينة لانفجار او لانهيار قد ياتي ادهى من الانفجار او يكون بين اسبابه .اليوم يواجه لبنان ، و هو في مهب ازمة عارمة اكثر من ضرورة واحدة قريبة .يواجه ضرورة سن قانون للانتخابات النيابية يصون حرياتها و يكفل نزاهتها بالتالي و هذا في ظل حكومة انتقالية قادرة تجتمع لها شروط الصيانة و الكفالة .و يواجه ضرورة الخروج من الانتخابات بحكومة وحدة وطنية تجتمع لها قاعدة كافية الاتساع لوضع هدف الاصلاح في النظام و الدولة في صورة برنامج يتناول كل صعيد :السياسة و الامن و الاجتماع و الاقتصاد و المال و النقد .هذه القاعدة الواسعة ضرورية ايضا لمواجهة ضغوط الخارج ، من اين اتت، على سياسة البلاد الاقليمية و لتجنيب هذه السياسة كل مغامرة تكسر الوحدة الداخلية .تلك كلها مطالب توافق اتفاق الطائف و نصه .ففي الاتفاق نص على اعتماد المحافظة دائرة انتخابية ،و هذا بعد تعديل التقسيم الاداري للبلاد في اتجاه الزيادة في عدد المحافظات .و هو نص لا يمنع اعتماد مبدا النسبية الذي تزكيه الضرورة الماثلة لتوسيع قاعدة التمثيل النيابي و الحؤول دون عزل أي من القوى السياسية ذات الاثر في مرحلة اقرار الاصلاحات المفروضة .و هذا يمنح قواما فعليا لحكومة الوحدة الوطنية التي ناط بها الاتفاق قيادة البلاد نحو الاصلاح.
و في الاتفاق ايضا رسم لمعالم الموقع الاقليمي اللبناني تقع في صدارته العلاقات المميزة بين لبنان و سورية و رفض توطين اللاجئين الفلسطينيين نهائيا في لبنان .و هذان الزامان يستجيب اولهما لروابط و مصالح اصيلة ليس لاي من الدولتين ان تحيد عن مسالكها و يبعد لبنان بخاصة عن اغراء الخضوع لضغوط اميركية اسرائيلية ظهرت بوادرها ،وهي تؤول الى زج لبنان في موقع من الصراع الاقليمي مناوىء للموقع السوري .هذا و يجب الا تعني محاذرة هذا الفخ رهنا مجددا لسيادة البلاد و لا على التخصيص خوض حروب بالسخرة نيابة عن النظام السوري :حروب تفضي لا الى تحقيق المصلحة المشتركة بل الى خراب لبنان لا غير .هذا الالزام المتصل بالعلاقات اللبنانية السورية يحمي ايضا وحدة اللبنانيين .و اما الزام رفض التوطين فهو يحمي هذه الوحدة ايضا و يرد عن البلاد اشباحا للتقسيم محتملة التجدد و هي نفسها اشباح الحرب الاهلية .وهو أي الالزام يجب الا يكون حائلا دون مساواة الفلسطينيين لجهة الحقوق المدنية و الاجتماعية بكل من هو مقيم شرعا على ارض لبنان من غير اللبنانيين .وفي المساواة هذه ما يمهد لتنسيق مع السلطة الوطنية الفلسطينية (حال الراعي السوري دون حصوله )وما يسهل بالتاي جمع السلاح من المخيمات فهذا السلاح قد امسى ،من زمن طويل ايضا عدة اقتتال و ارهاب اهليين لا اكثر و لا اقل .
أما اسماء الموقعين فهي التالية: أحمد بيضون، وادونيس ، وبول سالم، وجهاد الزين، وجورج دورليان، وحسن داوود، وحسام عيتاني، وخالد زيادة، ورغيد الصلح، وسليم نصر، وشفيق شعيب ، وعصام خليفة، وعباس بيضون ، وعزة شرارة ، وفاديا كيوان، وفهمية شرف الدين، ومرلين نصر، ومسعود يونس، ومنى فياض، ونبيل ابو شقرا، ويوسف معوض.
0 Comments:
Post a Comment
<< Home