Sunday, May 01, 2005

أنقذوا الديمقراطية من سوق النخاسة


"النهار"
الاحد 1 أيار 2005
أنقذوا الديمقراطية من سوق النخاسة !
غسان تويني

المطلب المعتدل الذي كان يمكن ان يتوجه به واحدنا الى الرئيس نجيب ميقاتي، اثر جلسة مجلس الوزراء، هو، بتعبير بسيط: "انقاذاً لما سمّيته شروق الديمقراطية، وللثقة الكثيفة التي نلتها من مجلس النواب، عليك ان تمثل أمام المجلس وتضع استقالتك في تصرفه، وتضعه أمام مسؤولياته"!
نعم، يا دولة الرئيس، مجلس النواب لا الجامع المنصوري حيث احتشد الطرابلسيون لاستقبالك، هو المكان الصالح لاعلان ما اعلنت يوم الجمعة الماضي:
"أقول للمتسلحين بالطائفية اننا حماة الوطن وضمانه الخ..."
المتسلحون بالطائفية – والمفارقة "الدستورية"(؟!) انهم في الآن ذاته يطالبون زوراً بالغائها – وحدك، بتربيتك، وبنجاحاتك وبشفافية شخصيتك (وكلنا نعرف كل شيء، في لبنان، وعن الاقرب اليه مهما بدا بعيداً... وليس في ذلك ما يضعف مركزك بل ما يقوّيه) – وحدك، نقول، في وسعك ان تخاطب المتسلحين بالطائفية فتضعهم امام المسؤولية التاريخية التي سميتها "حماية الوطن"، وفي وسعك ان تضيف "حماية انتفاضة استقلال 2005" وما حملته من احلام الوحدة والخروج بالديمقراطية اللبنانية (تذكّر: "شروق الديمقراطية"!) من بازار المحاصصات الذي حوّل الوطن المستنير ودولة التميّز "سوق نخاسة" تباع فيها أرقى الطموحات واجمل الاحلام بارخص الاثمان.
***
لسنا على درجة من السذاجة تجعلنا نتحصّن وراء مطالبة طوباوية بالغاء الطائفية، فنقول لك مثلا وللمتسلحين بالطائفية، أنْ آن اوان الخروج منها الى الآفاق الرحبة التي نودُّها "شروق الديمقراطية" في مهرجان الفرح الذي كانته تظاهرة اللبنانيين في 14 آذار وأيام مخيمات الشباب في "ساحة الحرية" يستلهمون ارواح الشهادات المستمرة من قرنين ويزيد...
نحن مع "فصل الدين عن الدولة"... وهو موقف أعمق بكثير من مطالبة ببغائية فارغة، هبط بها علينا "ميثاق الطائف"، كان مصيرها كمصير "اعادة انتشار القوات السورية" 13سنة من الترقّب، لولا محرّك القرار 1559 الذي رفضناه وطبقناه، في آن واحد!
وبتعبير أوضح، نحن مع كلام احد وزرائك، الدكتور طارق متري (يوم الجمعة الذي كنتَ فيه في طرابلس وكان هو في قريته المتواضعة بعكار!): "التنوّع الديني شيء والخلاف السياسي [اي "الطائفي"] شيء آخر (...) ويجب ألا يؤدي التنوع الديني الى خلاف سياسي، ولا ان يجعل الخلاف السياسي التنوع الديني سبباً للفرقة".
***
نعم يا دولة الرئيس.
آن لنا ان نكون واقعيين عمليين عقلانيين في مواقفنا، وان يقوم رئيس حكومة يقول للنواب (وأحرى ان يبدأ بالوزراء والرؤساء!) أنْ كفى الشعب اللبناني سماع الكلام الخشبي الفارغ الذي لا يشبع العقول (ولا البطون الجائعة خصوصاً) والشعارات البلهاء التي تدعو الى السلام كلاماً وتنتهي بالحروب واقعاً!!!
لا ندعوك، يا دولة الرئيس، ولا ندعو وزراء آخر زمان ورؤساء الشرعية الزائفة الى التصفيق الزائف لمتظاهري 14 آذار وشباب مخيمات الحرية والانتفاضة.
ندعوك وندعو الطبقة الحاكمة (والمرشحة لان تمدد لنفسها حكمها والتحكم بنا) الى أخذ اختبار جيل الانتفاضة جدياً ووضعه على محك التجربة التاريخية الواقعية، لا الكلامية.
فلنتحدَّ أنفسنا، ولنتحدَّ الآخرين، ونرى ما اذا كنا نستحق القفزة الديمقراطية الفذة التي أدهشت العالم وأدهشتنا. المليون متظاهر، يا دولة الرئيس، ويا سائر الرؤساء والوزراء، لم يكونوا فقط الشبان والشابات الذين اعتصموا في المخيمات، كانوا كذلك، بل كانوا خصوصاً كل الذين لم ينتظروا جلاء جيش الحكم السوري المخابراتي للتظاهر والهتاف، وعناق بعضهم البعض في ظل علم واحد غير طائفي ولا حزبي، هو ذاته العلم اللبناني الذي رسمه جيل اجدادهم على ورقة دفتر مدرسة وعلقوه على مبنى البرلمان والسرايا بالقوة، مكان علم الانتداب الفرنسي... وهذا ما يبدو اننا عجزنا عن تدريسهم تاريخه حتى يفتخروا به ويفاخروا العالم بأن شروقهم الديمقراطي لم ينبت من العدم، ولا جاء "مجوقلاً" مع جيش تحرير انقلب احتلالا... انما هو احياء لإرث هدره "الطائفيون" ومن مثلهم من مفسدي الحكم والوطن قبل ان يقمعه "البعثيون" وحلفاؤهم الميليشيويون المافيويّون من احزاب تحوّلت دكاكين متاجرة بمقدسات السياسة وعقائدياتها.
***
ختاماً، لماذا هذا التحدي؟
لاننا نربأ بك وبامثالك وامثال الوزير طارق متري – وانتم قلة في الحكم – ان تبقوا فيه وعذركم ان الآلة الحاكمة كانت أقوى، فلا حول ولا... الخ!
لا، كلا، الانتخابات التي فرضتم تقيّدها بالجدول الزمني الدستوري، شرعيتها في ان تفسحوا لها مجال التحول آلية الاستمرار والتوارث غير الثوري ولا المزوّر.
احزابنا معظمها أفلس، وأدى قسطه للعلى، وآن له ان ينام على ماضيه.
وليست ثمة هيكلية ديمقراطية في متناولنا لتأمين "تداول السلطة " غير تجربة جيل انتفاضة "استقلال 2005". وفي حكومتك يا دولة الرئيس وزير، ومثلك اقتصادي، هو دميانوس قطّار، أطلق مشروع مجلس نواب أبيض، أي تجريبي للشباب الذين اكتفى وليد جنبلاط بالقول "انهم سبقونا"، ولم يتوقف ليبلور منهجية للافادة من بروزهم.
فلا تتركوا هذه التجربة تتحول سجناً عربياً آخر، تموت فيه احلام جيل طالع، في انتظار ان يأتي جيل آخر يكرر الاحلام ذاتها ويصطدم بديمومة، بل "ازلية" الاتجار بالسياسة على حساب الدين، وتحويل ثراء تنوعنا الديني بضاعة كاسدة في سوق... عكاظ لا يبقى منها للتاريخ الا بلاغة السخافة وفكاهة السذاجة، أو تحوّل "اليقظة الدينية" العامة الى مظهر من مظاهر السأم واليأس، يسهل اذذاك توظيفها في اشكال الارهاب المتبرعمة في عالمنا العربي "من المحيط الى الخليج"!
غسان تويني

0 Comments:

Post a Comment

<< Home