سوريا في دوامة الإعصار اللبناني
سوريا في دوامة الإعصار اللبناني
اسلام اون لاين - "فورين آفيرز" - فؤاد العجمي - ترجمة: شيرين حامد فهمي 30/05/2005 :
كان يوم 14 فبراير 2005 إيذانًا بتحول جذري ليس على الصعيد اللبناني فقط، وإنما على الصعيد الشخصي لرفيق الحريري الذي تحول إلى شهيد لبنان الأول، وصار رمزا للوحدة اللبنانية بعد أن تسبب اغتياله في تحفيز الشارع اللبناني كي يعلن عن رغبته في الاستقلال الحقيقي والنهائي من سوريا؛ لأن لبنان لم يكن أبدا جزءا من سوريا الكبرى، رغم فرض "حافظ الأسد" هيمنة بلاده عليه التي قد بلغت درجة الاحتلال منذ عام 1990.
نقلة حقيقية
وقد أدى اغتيال الحريري إلى فك هذا "التابو" للعلاقات السورية اللبنانية، كما طرأ تغيير أيضا على المجتمع الدولي؛ فبعد الخلاف الأمريكي الفرنسي العميق حول موضوع العراق، إذا بهما يتصالحان على خلفية موضوع الاغتيال؛ وهو ما أوقع "بشار الأسد" -قليل الخبرة- وسط عاصفة دولية عاتية.
فبعد اثني عشر عاما من تشجيع "بوش الأب" لفرض الولاية السورية على لبنان من أجل ضمان تأييده للحرب الأمريكية على العراق عام 1991 تتغير الأحوال جذريا؛ فالإدارة الأمريكية فقدت الثقة في الأنظمة العربية، وتتوجس من نوايا حكومات المشرق خاصة سوريا، رغم عدم ممانعتها المشاركة في الحرب على الإرهاب أو تقديم المعلومات حول الجهاديين السوريين المتسربين من سوريا إلى العراق، وأصبحت دمشق لا تضمن السلامة من أي انقضاض أمريكي عليها في القريب العاجل، خاصة أنها البوابة البعثية المجاورة للعراق.
وعلى الرغم من نجاح "حافظ الأسد" في صد جميع الانتقادات الداخلية، وفي إخضاع السياسة اللبنانية للدولة السورية.. فإن ابنه لن يقوى على فعل ذلك الآن، ولن يستطيع الإتيان بما أتى به والده سابقًا. فالعقيدة الأمنية الأمريكية الجديدة خلقت واقعا جديدا، وغيرت الحسابات السورية القديمة. فمن ناحية نشهد الحروب الاستباقية والوقائية التي ليست سوريا منها ببعيد، ومن ناحية ثانية نشهد عزم الإدارة الأمريكية على تخليص المنطقة العربية من جميع قياداتها الديكتاتورية. ومن ناحية ثالثة نشهد المحافظين الجدد بواشنطن، وهم يسرقون النوم من جفون الطبقات السياسية العربية.. فمن الذي يعلم بما يدور في أذهانهم وعقولهم؟.
وبعد اندلاع حرب العراق في مارس 2003 لم تهتم الدولة السورية بحماية حدودها المشتركة مع العراق، ولم تر مانعا في جعل أراضيها ملجأ لأولياء النظام العراقي السابق الذين دفعوا الكثير نظير تلك الخدمة، وأصبح النظام العلوي السوري المعروف بعدائه الدائم للإسلاميين السنيين ينتهي به الأمر بتغذية المقاومة السنية في دولة مجاورة أملا في أن يكون العراق هو أول المحطات وآخرها.
وبالنسبة لواشنطن لم تعد دمشق تمثل لاعبًا مهمًّا في "الهلال الخصيب"، كما كان الوضع في عهد الرئيس "بوش" الأب. ولم تعد موضعا للتملق والتودد من قبل إسرائيل، كما كان الوضع في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق "إيهود باراك" الذي كان يفضل عقد اتفاق مع السوريين عن عقد تسوية مع الفلسطينيين. لقد صار السوريون الآن موضع التجاهل والازدراء، سواءً من قبل واشنطن أو تل أبيب. لم يعد أحد في القدس أو واشنطن ينتظر سوريا. إنه نظام استطاع الاستمرار في نهجه السلطوي الاستبدادي، لكنه فقد ما كان يملكه في السابق (الثقة والأمان).
عالم مختلف
اندلعت أزمة الهوية اللبنانية في أواخر عام 2004 حينما قامت سوريا بمد الانتداب للرئيس اللبناني الماروني "إميل لحود"، ورغم تحالف القائد الدرزي "وليد جنبلاط" مع القس الماروني "كاردينال مار نصر الله بطرس صفير" لإرجاع لبنان إلى استقلاليته؛ فإن النظام السوري لم يحرك ساكنا؛ فلم يتراجع عن تمسكه بتولي "لحود" الرئاسة بل قابل "بشار" الحريري بطريقة فاترة، وأدى الخلاف بينهما إلى استقالة الحريري معلنًا رفضه العلني للهيمنة السورية، ومتحولا إلى صفوف المعارضة بما يملكه من نفوذ مادي وسمعة دولية.
ورغم تبني مجلس الأمن الدولي القرار 1559 الذي يدعو جميع القوات الأجنبية المتبقية في أنحاء لبنان للانسحاب فورًا فإن البرلمان اللبناني قد صادق على القرار السوري بتمديد فترة "لحود" بعد قرار مجلس الأمن بيوم واحد في 2 سبتمبر 2004؛ وهو ما جعل هناك تفاهما أكبر بين فرنسا والولايات المتحدة حول إخراج القوات السورية من لبنان، ولم تعد الدبلوماسية الفرنسية التي وصفت بالسلمية تجاه العراق هي ذاتها تجاه سوريا؛ لأن لبنان تمثل الكثير بالنسبة لفرنسا من الناحية التاريخية، علاوة على العلاقات الشخصية المتوطدة بين الرئيس الفرنسي "جاك شيراك" و"الحريري"؛ وهو ما جعل القادة السوريين يذهبون إلى الافتراض القائل بأن "الحريري" قد لعب دورًا جوهريًّا في إعداد مسودة القرار 1559، وأن الدبلوماسية الفرنسية قد ساعدت على تأجيج الموقف الأمريكي ضد سوريا.
وواقع الأمر يؤكد أن سوريا لم تستطع أبدا التجاوب مع ذلك العالم المتغير الذي خلفته أحداث الحادي عشر من سبتمبر. فقبل تلك الأحداث -وبالضبط في مارس 2001- كان الكاردينال "صفير" قد سافر إلى الولايات المتحدة حاملا معه القضية اللبنانية. إلا أنه لم يجرؤ أبدا -ولم تجرؤ الولايات المتحدة ذاتها- على استفزاز دمشق أو مهاجمتها، ولم يجرؤ أحد على استفزاز مشاعر الوطنية لدى الشارع اللبناني. إلا أنه الآن -وبعد مرور 4 سنوات- صار الاستقلال اللبناني قضية عالمية تسعى إليها الولايات المتحدة بكل ما أوتيت من قوة.
"حزب الله" وتغيير الخطاب
كان غياب السيادة اللبنانية وضرورة الدفاع عن الأراضي اللبنانية عاملين مهمين لحركة "حزب الله" الذي تدعمه سوريا، لكن الواقع الآن يشير إلى أن الحزب ليس بحاجة إلى حروب مقدسة؛ فهو الآن له مرشحون في البرلمان وقناة فضائية وإسهامات اقتصادية على الأراضي اللبنانية، كما أن الشيعة سيؤثرون في نهاية الأمر قوميتهم اللبنانية على تأييد النظام السوري المكروه لبنانيا، خاصة بعد أن تمحورت المراكز السياسية حول شخصيات مناهضة للوجود السوري في لبنان، مثل القس المارون "صفير"، والقائد الدرزي "جنبلاط" أو جماعة التكنوقراط الذين كانوا يعملون مع "الحريري"؛ وهو ما يعني أن حسابات السياسة ورغبة اللبنانيين الشيعة في أخذ نصيبهم من الكعكة السياسية يلزم حزب الله بتغيير خطابه؛ ليكون أكثر قومية ووطنية؛ وهو ما يتضح في قيام قيادته برفع الأعلام اللبنانية -وليس الأعلام الخاصة بالحزب- في أثناء المسيرة الجماهيرية التي تمت في 8 مارس الماضي بعد اغتيال "الحريري".
ويضاف إلى ذلك الضغوط الفرنسية والأمريكية التي تعمل على انتقال الحزب من عالم المقاومة إلى عالم السياسة؛ باعتبار ذلك ضمانا لإخراج سوريا من لبنان، ومنع العودة في تدخلها في شئونه الداخلية.
انهيار دولة
لا يخفى على أحد إذن ما يواجهه النظام السوري الحالي من انعزال ووحدة في وسط محيطه العربي تضاف إلى غربته عن الشعوب العربية؛ نظرًا لانشقاقه عن السنية الإسلامية وتاريخه السيئ في الهيمنة على لبنان.
ولن يُسعف السوريين التدخل المصري أو السعودي. فالنظام المصري له مشكلاته، ورصيد مبارك لدى واشنطن لم يعد كما كان في السابق. وأما التدخل السعودي فهو لن يكون أبدا لصالح سوريا ضد لبنان، والسبب في ذلك هو "الحريري" الذي كان يمتلك إرثا ضخما من العلاقات مع "بيت آل سعود". فـ"الحريري" -صاحب الجنسية السعودية بجانب اللبنانية- لم يُدخل فقط المال السعودي إلى لبنان، بل أدخل أيضا الاستثمار السعودي.. والطريقة السعودية العاشقة للقوة والثراء والبيزنس.
لقد تجاهل العرب لبنان مرتين: الأولى في عقد السبعينيات حينما كانت فلسطين في قلب الهم العربي دون الالتفات للبنان أو صراعاته الداخلية، والثانية في عقدي الثمانينيات والتسعينيات حينما سمحت بانتهاك سيادته من القوات السورية. وربما يعود ذلك لعاملين: أولهما أن لبنان هو في الأساس بلد مسيحي، وثانيهما أن العرب بشكل عام لا يملكون رؤية واضحة لحل أي مشكلة.
إن النظام السوري يقف حاليًّا في نفس المرحلة التي كان يقف فيها النظام العراقي ليلة خلعه من قبل الولايات المتحدة، ولا يستطيع أحد أن يتنبأ بالوقت الذي سينفد فيه صبر الإدارة الأمريكية على النظام السوري، أو بالوقت الذي ستنفد فيه شرعية الأساليب القديمة العتيقة، كما أن الإيرانيين أكثر حنكة وبرجماتية في اتخاذ قراراتهم، ولن تجازف إيران أو تغامر من أجل إنقاذ دمشق.
"إعصار الحرية"
لا ينبغي التخوف من استقلال لبنان؛ فسوريا لم توفر لذلك البلد الاستقرار قط. صحيح أن اللبنانيين سوف يتعرضون لاختبارات ومحكات صعبة -بعد جلاء السوريين- وأولها شبح الإرهاب الذي طل برأسه منذ اغتيال "الحريري"، إلا أن صلاحية بقاء السوريين كضامن للأمان اللبناني قد تم استنفادها.
وبالنسبة للانسحاب السوري من لبنان فقد تبلورت قراءتان: الأولى تعتبر ذلك الانسحاب خطوة نحو إنقاذ النظام السوري. والقراءة الثانية الأكثر واقعية ترى أن الانسحاب لن ينقذ النظام السوري في شيء، كما هو مفترض.
ولكن هل ينهي الانسحاب السوري السيطرة السورية على لبنان؟ ربما تنتهي تلك الآلية التي كان يستخدمها السوريون للسيطرة على اللبنانيين، إلا أن العوامل الجغرافية ستبقى حية بارزة، ولا يمكن لسوريا أن تسعى لإشعال حرب داخلية؛ فاللبنانيون على وعي بذلك، وسوريا لا تستطيع الاستغناء عن السوق اللبنانية التي تستوعب 600 ألف عامل سوري، وهي بحاجة دائمة إلى المهارات والثروات الاقتصادية التي لن تجدها إلا في الخارج.
إن الشعب السوري يرى نفسه الآن في مفترق الطرق؛ فهو ينظر شرقًا؛ فيجد في العراق تجربة ديمقراطية وليدة، وينظر غربا فيجد الشباب اللبناني يجوب الشوارع والميادين بحثا عن حقه في الحرية. أما في سوريا.. فالكل ما زال خائفا، الحكام يخافون على ضياع امتيازاتهم، والشعب يخاف على نفسه من قسوة الحكام.
وعامة الأنظمة العربية في طريقها إلى الاستسلام.. لا محالة. فالإعصار هذه المرة إعصار قوي وعنيف، ولكنه العقار الأمثل والدواء الأفضل لسماء عكرة. ولا نستطيع أن ننكر مشاهدتنا لـ"خريف الديكتاتوريات العربية"، وأفول نجمها وربيعها وشمسها، ولا تعد سوريا استثناء من هذه التغييرات.
0 Comments:
Post a Comment
<< Home