إشكالية «الهلال السني» في سورية
إشكالية «الهلال السني» في سورية
شكراً للطموحات السورية التي أدت لدخول لبنان، ولم تغزُ روسيا. فقد وقف الديبلوماسي السوري الساخر عبد المطلب الأمين، ليؤكد لستالين خلال احتفال عام في موسكو في مطلع خمسينات القرن الماضي «ان سورية ليست لديها مطامع في الاتحاد السوفياتي». وابتسم الحضور مع ستالين، وكان نادرا ما يبتسم، للدعابة من ديبلوماسي خفيف الظل.
غير أن الطموحات السورية ما لبثت أن غزت الأردن في أواخر الستينات، ثم كادت تغزوه مرة أخرى في أواخر السبعينات. ودخلت لبنان ونسيت أن تنسحب منه نحو ثلاثين سنة. وأتمنى من كل قلبي أن لا تفكر المحاولة السورية بغزو أي بلد آخر في العالم بعد الآن.
غزا صلاح جديد الأردن لإنقاذ الفلسطينيين الذين يضطهدهم في سورية. واستخدم حافظ الأسد المحاولة الفاشلة لإسقاط نظام جديد. ثم فكر هو نفسه بغزو الأردن الذي كان يتغاضى عن تسلل الاخوان المسلمين إلى سورية لاغتيال النظام بحجة أنه يضطهد السنة. واخترقت المخابرات تنظيم الاخوان فمنهم من «تاب» وعاد الى حضن النظام، ومنهم من هاجر من الأردن الى صدام، ومنهم من استقر في لندن بدلا من عمان.
إذا كان الانسحاب من الأردن أدى الى سقوط صلاح جديد قبل أكثر من 35 سنة، فهل يؤدي الانسحاب من لبنان إلى تغيير آخر في سورية؟
لا شك أن معركة سورية قد بدأت فعلا منذ انسحاب آخر جندي سوري من العاصمة المخابراتية عنجر. وهي معركة طويلة يأمل المثقفون السوريون المشاركون فيها، في أن تبقى سياسية وسلمية، ولا تتحول الى فرن يلتهم الجميع، على الطريقة العراقية.
الثورات، كل الثورات، يمهد لها المفكرون والمثقفون، ويخوض غمارها الثوار الفوضويون، وتنتهي مستقرة في حضن الساسة المحترفين. من هنا، فالمثقفون السوريون الذين تغص بهم دكاكين حقوق الانسان، وأعمدة الصحف في الخارج ولبنان، سوف يجدون أن كل مثاليات التنظير التي أنتجوها ستستقر في سلة مهملات التاريخ. ألم يحدث ذلك لأدبيات عفلق والبيطار وجمال أتاسي وعبد الدائم والدروبي وشاكر مصطفى وياسين الحافظ... بعد ثورات البعث في سورية والعراق؟ ألم يحدث ذلك بعد الاحتلال الأميركي لصدام؟ ألم يسقط المثقفون العراقيون، وتربح طالبان وجعفري والحكيم.. وزرقاوي؟
بعد موجة مثقفي الاربعينات القوميين، جاء مثقفو الستينات الماركسيون الذين «نظروا» لكوميونة صلاح جديد. ها هم قد غيروا جلودهم وألسنتهم اليوم، ولبسوا مسوح كرادلة الليبرالية الديمقراطية. لا بأس، ولا خوف، فليست لهم جذور شعبية في مجتمع سوري محافظ وضع البرقع الديني على وجهه نكاية بنظام «علماني». من هنا أقول انه لا بد من رؤية للواقع الميداني السوري بعيدة تماما عن غشاوة الضبابية الثقافية المثالية.
في سعيها الحثيث للحلول محل اللاعب السوري الغائب، رصدت عمان «هلالا شيعيا» يسبح من بغداد ـ نسيت طهران ـ الى سورية ولبنان. في «تخويف» العرب من هذا الهلال الغريب، تنسى عمان واقع وجود «هلال سني» في السماء السورية ليعترض الهلال الشيعي، لسبب مبدئي وبديهي، وهو كون سورية شبه خالية من الشيعة، على الرغم من كل حوزات التشيع التي أسستها إيران في بلاد الشام.
الأقمار الصناعية الأميركية التي أطلقت الهلال الشيعي في العراق من مقولة أكثرية الثلثين الشيعية المبالغ في صحتها، هي التي رصدت هلالا سنيا في سورية! مستعينة برؤى اسرائيلية قديمة/متجددة للمشرق العربي، على أساس دويلات طائفية، ومن شأن هذه الدويلات الهزيلة والمسالمة أن تخفف من وطأة قومية عربية واحدة على دولة طائفية أخرى هي الدولة اليهودية.
توزيع أمة على دويلات طائفية لم يبدأ في العراق. لقد بدأ تاريخيا في لبنان، ثم في اسرائيل. الدولة اليهودية تتعامل مع عربها على أساس كونهم طوائف مسيحية وسنية وشيعية ودرزية. وهي، وليس موارنة لبنان، التي «نظرت» لمشروع الدويلات الطائفية في المنطقة.
المسيحية/الصهيونية التي تعتبر قوة الدفع في صميم «المحافظة الجديدة» التي تشكل بدورها القاعدة الإيمانية لكنيسة بوش السياسية، هي التي تحيي بتشجيع من الليكود المشروع اليهودي لـ «تطييف» المنطقة. هذه المسيحية هي التي أقامت مراكز تبشيرية وإذاعة لها في جنوب لبنان خلال الاحتلال الاسرائيلي، وهي التي تبرعت وتتبرع بسخاء لاستيطان الضفة وتهويد القدس. وفي حالة عدم نجاح «التطييف» سلميا، فهي تعتقد أن على اسرائيل أن تتوسع في سورية ولبنان، لتمهيد الأرض الصالحة لاستقبال واحتضان المسيح (غودو) المنتظر الذي سيخلص البشر.
شيمعون بيريس أضفى بدهائه طابعا «علمانيا» على مشروع التطييف وتغييب الهوية العربية، بالمناداة بالتعايش في «شرق أوسط كبير«. ادارة بوش التقطت الفكرة، واستلهمت قاعدتها المسيحية، فبدأت عمليا في «تطييف» الديمقراطية، باستيلاد هلال شيعي في عملية عراقية قيصرية.
البراغماتية الأميركية لا ترى خطرا من «تطييف» مشروعها الديمقراطي والإصلاحي في المشرق العربي! إذا كان التطييف شيعيا في العراق، فليس بالضرورة أن يكون شيعيا أيضا في سورية، كما يظن المرصد الأردني. لا بد أن يكون التطييف أصوليا سنيا معتدلا في سورية والأردن، وربما في مصر أيضا، استنادا إلى واقع الأغلبيات السنية فيها.
المرجعية الاخوانية المصرية التقطت، في لهفة العطش الى السلطة، مشروع «التطييف» الأميركي، سواء بتنسيق أو بغير تنسيق معه، لتتحرك تحت بيارق الديمقراطية، إما «لأسلمة» النظام، وإما لإقامة نظام (سني) بديل. وها هي الإخوانية السورية تطرح من لندن مشروع حوار مع قوى المعارضة السورية، وتهدد بالتحرك داخل سورية، بعدما كانت تستعطف النظام للسماح لها بالعودة الأمنة إليها.
في علمي المتواضع والمحدود، فمعظم قوى المعارضة السورية (العلمانية)، اللهم باستثناء معارضة البنتاغون، ترفض الى الآن الحوار مع الاخوان، لخوفها من أن يكون مظلة يعبر من تحتها الاخوان الى شارع سوري سني، مهيأ بعفويته المحافظة، لتقبل مشروع دولة ديمقراطية تقبل بها أميركا وتتصالح معها اسرائيل، وتهيمن عليها الأصولية الاخوانية (السنية) تماما كما هيمنت المرجعية الشيعية في العراق. خوف المعارضات السياسية السورية يتلخص في القول إن النظام الراهن ألغى الحرية السياسية، لكن نظاما يهيمن عليه الإخوان، عبر صندوق الاقتراع الشعبي، سوف يلغي أيضا الحرية الاجتماعية، ويضيق على الحرية السياسية للأقليات الدينية، وقد يكفر أيضا «علمانية» الأحزاب السياسية.
أين يقف النظام إزاء إشكالية التعامل مع «الهلال السني»، وفي مواجهة هذه البلبلة المحيطة بحاضر ومستقبل سورية بعد انسحابها من لبنان؟
المؤتمر المقبل للحزب الحاكم سيكون محكا لقابلية النظام للتكيف مع المتغيرات. لقد رفضت اسرائيل، على الرغم من المصافحة، عقد اتفاق صلح وسلام وانسحاب من الجولان معه، معولةً على سلام، أكثر استقرارا وقبولا، مع نظام سني بديل له. لكن هل ينجح النظام، على الأقل، في إقناع اميركا بعدم ملاحقته الى داره من بوابة عنجر، لا سيما إذا ما قام بـ«حركة تصحيحية» يتخلص فيها، سلميا، من الأجنحة المدنية والعسكرية والمخابراتية التي عرقلت «إصلاحات بشار» إلى الآن؟
لعل لقاء في منتصف الطريق بين النظام وأميركا والمعارضات الإخوانية والعلمانية، كافٍ لتجنيب سورية ما حدث لهلال شيعي اصطبغ بالدماء في العراق.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله مع «الاخوان المسالمين». انه غفور رحيم.
شكراً للطموحات السورية التي أدت لدخول لبنان، ولم تغزُ روسيا. فقد وقف الديبلوماسي السوري الساخر عبد المطلب الأمين، ليؤكد لستالين خلال احتفال عام في موسكو في مطلع خمسينات القرن الماضي «ان سورية ليست لديها مطامع في الاتحاد السوفياتي». وابتسم الحضور مع ستالين، وكان نادرا ما يبتسم، للدعابة من ديبلوماسي خفيف الظل.
غير أن الطموحات السورية ما لبثت أن غزت الأردن في أواخر الستينات، ثم كادت تغزوه مرة أخرى في أواخر السبعينات. ودخلت لبنان ونسيت أن تنسحب منه نحو ثلاثين سنة. وأتمنى من كل قلبي أن لا تفكر المحاولة السورية بغزو أي بلد آخر في العالم بعد الآن.
غزا صلاح جديد الأردن لإنقاذ الفلسطينيين الذين يضطهدهم في سورية. واستخدم حافظ الأسد المحاولة الفاشلة لإسقاط نظام جديد. ثم فكر هو نفسه بغزو الأردن الذي كان يتغاضى عن تسلل الاخوان المسلمين إلى سورية لاغتيال النظام بحجة أنه يضطهد السنة. واخترقت المخابرات تنظيم الاخوان فمنهم من «تاب» وعاد الى حضن النظام، ومنهم من هاجر من الأردن الى صدام، ومنهم من استقر في لندن بدلا من عمان.
إذا كان الانسحاب من الأردن أدى الى سقوط صلاح جديد قبل أكثر من 35 سنة، فهل يؤدي الانسحاب من لبنان إلى تغيير آخر في سورية؟
لا شك أن معركة سورية قد بدأت فعلا منذ انسحاب آخر جندي سوري من العاصمة المخابراتية عنجر. وهي معركة طويلة يأمل المثقفون السوريون المشاركون فيها، في أن تبقى سياسية وسلمية، ولا تتحول الى فرن يلتهم الجميع، على الطريقة العراقية.
الثورات، كل الثورات، يمهد لها المفكرون والمثقفون، ويخوض غمارها الثوار الفوضويون، وتنتهي مستقرة في حضن الساسة المحترفين. من هنا، فالمثقفون السوريون الذين تغص بهم دكاكين حقوق الانسان، وأعمدة الصحف في الخارج ولبنان، سوف يجدون أن كل مثاليات التنظير التي أنتجوها ستستقر في سلة مهملات التاريخ. ألم يحدث ذلك لأدبيات عفلق والبيطار وجمال أتاسي وعبد الدائم والدروبي وشاكر مصطفى وياسين الحافظ... بعد ثورات البعث في سورية والعراق؟ ألم يحدث ذلك بعد الاحتلال الأميركي لصدام؟ ألم يسقط المثقفون العراقيون، وتربح طالبان وجعفري والحكيم.. وزرقاوي؟
بعد موجة مثقفي الاربعينات القوميين، جاء مثقفو الستينات الماركسيون الذين «نظروا» لكوميونة صلاح جديد. ها هم قد غيروا جلودهم وألسنتهم اليوم، ولبسوا مسوح كرادلة الليبرالية الديمقراطية. لا بأس، ولا خوف، فليست لهم جذور شعبية في مجتمع سوري محافظ وضع البرقع الديني على وجهه نكاية بنظام «علماني». من هنا أقول انه لا بد من رؤية للواقع الميداني السوري بعيدة تماما عن غشاوة الضبابية الثقافية المثالية.
في سعيها الحثيث للحلول محل اللاعب السوري الغائب، رصدت عمان «هلالا شيعيا» يسبح من بغداد ـ نسيت طهران ـ الى سورية ولبنان. في «تخويف» العرب من هذا الهلال الغريب، تنسى عمان واقع وجود «هلال سني» في السماء السورية ليعترض الهلال الشيعي، لسبب مبدئي وبديهي، وهو كون سورية شبه خالية من الشيعة، على الرغم من كل حوزات التشيع التي أسستها إيران في بلاد الشام.
الأقمار الصناعية الأميركية التي أطلقت الهلال الشيعي في العراق من مقولة أكثرية الثلثين الشيعية المبالغ في صحتها، هي التي رصدت هلالا سنيا في سورية! مستعينة برؤى اسرائيلية قديمة/متجددة للمشرق العربي، على أساس دويلات طائفية، ومن شأن هذه الدويلات الهزيلة والمسالمة أن تخفف من وطأة قومية عربية واحدة على دولة طائفية أخرى هي الدولة اليهودية.
توزيع أمة على دويلات طائفية لم يبدأ في العراق. لقد بدأ تاريخيا في لبنان، ثم في اسرائيل. الدولة اليهودية تتعامل مع عربها على أساس كونهم طوائف مسيحية وسنية وشيعية ودرزية. وهي، وليس موارنة لبنان، التي «نظرت» لمشروع الدويلات الطائفية في المنطقة.
المسيحية/الصهيونية التي تعتبر قوة الدفع في صميم «المحافظة الجديدة» التي تشكل بدورها القاعدة الإيمانية لكنيسة بوش السياسية، هي التي تحيي بتشجيع من الليكود المشروع اليهودي لـ «تطييف» المنطقة. هذه المسيحية هي التي أقامت مراكز تبشيرية وإذاعة لها في جنوب لبنان خلال الاحتلال الاسرائيلي، وهي التي تبرعت وتتبرع بسخاء لاستيطان الضفة وتهويد القدس. وفي حالة عدم نجاح «التطييف» سلميا، فهي تعتقد أن على اسرائيل أن تتوسع في سورية ولبنان، لتمهيد الأرض الصالحة لاستقبال واحتضان المسيح (غودو) المنتظر الذي سيخلص البشر.
شيمعون بيريس أضفى بدهائه طابعا «علمانيا» على مشروع التطييف وتغييب الهوية العربية، بالمناداة بالتعايش في «شرق أوسط كبير«. ادارة بوش التقطت الفكرة، واستلهمت قاعدتها المسيحية، فبدأت عمليا في «تطييف» الديمقراطية، باستيلاد هلال شيعي في عملية عراقية قيصرية.
البراغماتية الأميركية لا ترى خطرا من «تطييف» مشروعها الديمقراطي والإصلاحي في المشرق العربي! إذا كان التطييف شيعيا في العراق، فليس بالضرورة أن يكون شيعيا أيضا في سورية، كما يظن المرصد الأردني. لا بد أن يكون التطييف أصوليا سنيا معتدلا في سورية والأردن، وربما في مصر أيضا، استنادا إلى واقع الأغلبيات السنية فيها.
المرجعية الاخوانية المصرية التقطت، في لهفة العطش الى السلطة، مشروع «التطييف» الأميركي، سواء بتنسيق أو بغير تنسيق معه، لتتحرك تحت بيارق الديمقراطية، إما «لأسلمة» النظام، وإما لإقامة نظام (سني) بديل. وها هي الإخوانية السورية تطرح من لندن مشروع حوار مع قوى المعارضة السورية، وتهدد بالتحرك داخل سورية، بعدما كانت تستعطف النظام للسماح لها بالعودة الأمنة إليها.
في علمي المتواضع والمحدود، فمعظم قوى المعارضة السورية (العلمانية)، اللهم باستثناء معارضة البنتاغون، ترفض الى الآن الحوار مع الاخوان، لخوفها من أن يكون مظلة يعبر من تحتها الاخوان الى شارع سوري سني، مهيأ بعفويته المحافظة، لتقبل مشروع دولة ديمقراطية تقبل بها أميركا وتتصالح معها اسرائيل، وتهيمن عليها الأصولية الاخوانية (السنية) تماما كما هيمنت المرجعية الشيعية في العراق. خوف المعارضات السياسية السورية يتلخص في القول إن النظام الراهن ألغى الحرية السياسية، لكن نظاما يهيمن عليه الإخوان، عبر صندوق الاقتراع الشعبي، سوف يلغي أيضا الحرية الاجتماعية، ويضيق على الحرية السياسية للأقليات الدينية، وقد يكفر أيضا «علمانية» الأحزاب السياسية.
أين يقف النظام إزاء إشكالية التعامل مع «الهلال السني»، وفي مواجهة هذه البلبلة المحيطة بحاضر ومستقبل سورية بعد انسحابها من لبنان؟
المؤتمر المقبل للحزب الحاكم سيكون محكا لقابلية النظام للتكيف مع المتغيرات. لقد رفضت اسرائيل، على الرغم من المصافحة، عقد اتفاق صلح وسلام وانسحاب من الجولان معه، معولةً على سلام، أكثر استقرارا وقبولا، مع نظام سني بديل له. لكن هل ينجح النظام، على الأقل، في إقناع اميركا بعدم ملاحقته الى داره من بوابة عنجر، لا سيما إذا ما قام بـ«حركة تصحيحية» يتخلص فيها، سلميا، من الأجنحة المدنية والعسكرية والمخابراتية التي عرقلت «إصلاحات بشار» إلى الآن؟
لعل لقاء في منتصف الطريق بين النظام وأميركا والمعارضات الإخوانية والعلمانية، كافٍ لتجنيب سورية ما حدث لهلال شيعي اصطبغ بالدماء في العراق.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله مع «الاخوان المسالمين». انه غفور رحيم.
0 Comments:
Post a Comment
<< Home