Sunday, October 15, 2006

نقد لخطاب ميشال عون،"أذناب المسيحيين" لو حكوا

نقد لخطاب ميشال عون،"أذناب المسيحيين" لو حكوا
نسيم ضاهر النهار 8/10/2006
يعود النقاش مع شخصية بحجم العماد عون، صاحب التكتل النيابي العريض وزعيم "التيار الوطني الحر"، الى نظرائه من اللاعبين السياسيين. وبالقطع تستدعي المبارزة الديموقراطية من ناقده أن يكون من عياره أو يقترب منه، ويحظى بأهلية ربط النزاع وصفة الخصومة التي أرادها العماد عنواناً لمشاغلته ومطالبته برحيل الحكومة التي فقدت كل رصيد لديه.
لذلك، يقتصر تفنيدنا على بنية الخطاب العوني وخلفياته "الفكرية" وألفاظه، أي المتاح من مساحة يفردها النظام الديموقراطي ويستحقها المواطن حيال العاملين في الشأن العام، وصنَّاع السياسة منهم وأبرزهم بامتياز.
لكل خطاب لغة، ولكل لغة غلافها النظري إذا جاز القول. ومن مطلع الحديث/ الحوار المنشور في "النهار" (الاحد 3 ايلول 2006)، يفاجئ العماد عون القارئ بتبنيه الكامل لقراءة غيبية من صلب منظومة فكرية، يصعب فهم علاقته النَسَبية والتراثية والوجدانية بها. فدليل العماد لنيات إيران السلمية في المسألة النووية حاسم، مرتكزه أنَّ "ثمة فتوى من السيد علي خامنئي بتحريم السلاح النووي، وإيران تعد بأنها ستتقيد... فأين المخالفة في ذلك؟". ويسترسل على المنوال نفسه لجهة نفي عدوان إسرائيلي مستقبلاً "لأنَّ ما دمَّروه دُمِّر، ولم يُبنَ مجدداً، إذاً الوجع سيكون أقل، فماذا سيفعلون؟".
على هذه المقدمات، يشحذ العماد عون أسلحته واعداً الرئيس فؤاد السنيورة "بأربعة أنواع من المسلات كنوع من الهدية". وفي سياق مجمل الحديث، يتعمد السخرية الممزوجة بالبديهيات المطلقة في عرفه، فيزخر متن النص بالمصطلحات والإشارات "الحربجية"، ترد تباعاً كطلقات رشاش:
"فاجأنا الرئيس السنيورة بتحوُّله من الرجل الباكي إلى الرجل الشرس... ولا أعرف ما هي الفيتامينات التي تناولها كي يصبح قبضاياً". ويستطرد: "أصلاً الحكومة لم تخرط في دماغنا وهي تمثل ثلث اللبنانيين". وفي معرض إعداد الجيش، يجزم: "نحن نريد الجيش، و"حزب الله" يريده، ولكن الدولة هي الوحيدة التي لا تريده... المطلوب جيش قتال... هم يكذبون. "حزب الله" يريد الجيش ودخول الدولة، ولكن لا دولة حتى يدخل إليها".
الحكومة، في نظر العماد، ليست مخطئة، بل متواطئة في العدوان. يمرر العماد التهمة عبر حركة التفافية استناداً إلى "فوكس نيوز" التي نقلت تصريح المندوب الأميركي في مجلس الأمن، جون بولتون (وكلاهما أي "فوكس نيوز" وبولتون صاحبا سمعة موصوفة) القائل "إننا صنعنا القرار 1701 مع الحكومتين الإسرائيلية واللبنانية"، ويمضي مسجلاً "إنَّ الأرض كانت أقوى من المفاوض اللبناني. هنا نشعر بأنَّ ثمة ركاكة أو تواطؤاً، وأرجِّح أنه تواطؤ".
لكن العماد لا يطلعنا على كيفية صنع القرار الدولي الناجعة من زاويته والسبيل إليه دون مشاركة الحكومتين المعنيتين، إنما يندد بشروطه المجحفة لأنَّ الأرض (أي الوقائع الميدانية) كانت أقوى من المفاوض اللبناني. الواضح هنا، أن العماد عون يتحدث بلسان العسكري المجرب، ويعيب على المفاوض اللبناني تنازله المذل قياساً بقوة الأرض الواردة ضبابياً بلا تفصيل أو معطيات ملموسة.
بيد أنَّ جوابه على السؤال اللاحق يرفع كل لبس عن مقولته، موضحاً "لقد خلَّصت (الحكومة) الجيش الإسرائيلي من الإرباك الذي وقع فيه على الأرض. ألم نسمع ماذا حدث للمظليين الذين أنزلوهم وأبقوهم يومين من دون طعام، في أماكن معزولة؟".
والحقيقة أن للعماد معلومات دقيقة وأمنية وردت بالسمع والتواتر يشاركه فيها رئيس الجمهورية دون سواه، مفادها أنَّ الجيش الإسرائيلي كان بأسوأ حال على أبواب صدور القرار الدولي (العماد تحدث عن إرباك، والرئيس عن ولولة إسرائيلية وطلب ملح لوقف النار). والمفارقة معرفة العماد - الإلهية حتماً - بأن المظليين الإسرائيليين (قوات النخبة) بقوا يومين بدون طعام في أماكن معزولة. فكيف يأتي الخبر اليقين عن صوم المظليين القسري إذا كانوا فعلاً في مناطق معزولة؟
ما لم يفصح عنه العماد عون، مصدر وسير عمليات، سبقه وفضحه تصريح للعماد الرئيس لحود أدلى به لمحطة تلفزة أجنبية كاشفاً أن القوات الإسرائيلية أنقذت من ورطة عميقة في الأيام الأخيرة، واستجدت وقف النار، لأنَّها كانت مطوقة، أي على وشك السقوط والاستسلام باللغة العسكرية الفصيحة.
آخ من القرار الدولي ومن بشاعة واضعيه. فلولاه، ولولا المتآمرون علينا في الداخل والخارج، لصنعنا العجائب بشهادة عمادين. لا يذهب العماد عون إلى رفضه صراحة جملة وتفصيلاً، بل يكتفي بطعنات غمز ولمزـ لأن المقصود إسقاطه ليس القرار ـ والعماد مدرك في أعماقه لخطورة السير في مصادمته إلى النهاية ـ بل الحكومة المتخاذلة "الغائبة عن الحرب... والتي كانت وسيطاً فحسب" برمزها الأول، وخاصة بأعوانها من المسيحيين.
إليكم أوصافهم: "أذناب المسيحيين في 14 آذار هم الذين تحدثوا" عن المطالبة بالتغيير الحكومي (نورد ذلك بالإذن من الرئيس السوري). "أذناب تيار المستقبل المسيحيين يتطلعون إلى السياسة الضيقة". خطابهم "خطاب زعران الشارع والميليشيا. هؤلاء يكذبون... مواقفي صلبة في وجه 14 شباط ومن وراءهم ، الموقف المسيحي لا يوضع على جدول الرواتب".
كيف نزن هذه العينات أو بالأحرى أين نصنفها من محفظة السجال السياسي ومصرف الأهداف؟ للإجابة: يجدر التنقيب والبحث عن مسكنات وملطفات لتقويم هذه الرشقات المتوترة. أهذا نصيب من لا يطاوع العماد من المسيحيين، لأنهم "أناس لم يعرفوا في حياتهم الحياة الديموقراطية"، أو هذا درس لتصويب سلوكهم وتلقينهم على الأصول؟ ومن أين أتى العماد بمعلوماته عن "كذبهم واحتيالهم لأنهم يريدون أن يكونوا أبطالاً وهم الذين كانوا وعدوا الأميركيين سابقاً بأنهم سيسلمونهم سلاح "حزب الله"؟" هل يسقط العماد عليهم أبوة القرار 1559، وهو العليم بأمره دون منافسة؟
الظاهر عكس ذلك، لولبي المنطق، مدهش النتائج: "سقط مفعول القرار 1559 من خلال الانتخابات النيابية التي أتت بمجلس لا يقدر على إسقاط رئيس الجمهورية". ويضيف العماد "إطلاقاً هذا الموضوع ليس للبحث". هذا بالضبط، نموذج التناقض البنّاء بعينه، لأن الجنرال عون يتنصل من القرار 1559 ويدَّعي الوصاية على تنفيذ مندرجاته والتحكم بمصيره. والصحيح أن المجلس قادر على حسم مفاعيل التمديد وتقصير ولاية رئيس الجمهورية، لولا رفض كتلة التغيير الانضمام لتوفير أكثرية موصوفة تفي بالنص الدستوري. لذلك فإنَّ الموضوع ليس للبحث.
للأمس القريب ظلَّ العماد عون مصراً على أن ما يجمعه بـ"حزب الله" سقفه "التفاهم". وخلال فترة الحرب العداونية على لبنان، رفض صراحة الذهاب أبعد من ذلك، ورحَّل مجمل الموضوع بأناقة وحياء، رافضاً استدراجه إلى خانة التحالف. اليوم، يبدو جلياً أن وصف الحليف بات ضيِّقاً وقاصراً عن تعريف ماهية العلاقة التي تجاوزت مفهوم التحالف بوضوح، تعززها ذاكرة العماد عن مجريات ما قبل الحرب، ومبادرات "التيار الوطني" الراهنة، واشتراكه المادي بتوزيع المال الحلال الطاهر النقي.
ويمكن وصف الطرح العوني راهناً بما يشبه الاندماج العضوي، أقله سياسياً وفكرياً وعملانياً مع "حزب الله"، هذا يشيد بحكمة العماد ويؤازر صفته التمثيلية العريضة للمسيحيين وطموحه المشرع من على الشاشات والمنابر (بمساهمة وحماسة من رموز حقبة الوصاية السورية، مشفوعين باستطلاعات رأي موثقة!)، وذاك يضرب صفحاً من ماضي التقويمات المتبادلة (الموثّقة أيضاً والمسحوبة من التداول)، ويكشف مستور الأخصام اللدودين ليطيح الحكومة ويعلن وفاة الدولة توطئة لانبلاج فجر الدولة القادرة المقتدرة من عدم، ينفخ فيها "حزب الله" روح المقاومة ويسهر على سدتها أقوى المسيحيين، العلماني في وجه المذهبية السنيَّة دون سواها، "مالك" ثلث الأصوات بمواجهة ورثة الإقطاع الجنبلاطي، والخصم العنيد للغرب المتفسخ الشرير.
يقول العماد: "لا شيء صالحاً، كل شيء تعطل، لأنه لم يكن هناك حوار بل لغة عدائية. دخلوا على موضوع سلاح "حزب الله" بلغة عدائية واتهامية... مع أن الحزب لم يخطف أي إنسان وتاريخه يشهد على ذلك". ويضيف - إزاء ورقة تفاهم مسيحية محتملة - : "أنا لا أعترف بهم. ولا أريد التعامل معهم. لا أريد أن أتعاطى ومن لديه نيات سيئة وليس لديه المستوى الأخلاقي والفهم السياسي...". ويصل إلى بيت القصيد جازماً: "هم يكذبون. "حزب الله" يريد الجيش ودخول الدولة. ولكن لا دولة حتى يدخل إليها".
هكذا، يتكلم العماد بنبرة الواثق بشهادة التاريخ وبلا حرج، لأن الدولة، من منظاره، قيد الدرس والصناعة، تبدأ معه وتترسخ بدخول "حزب الله" إليها، شريطة رفس تجار الهيكل الفريسيين الكذابين. ويلاحظ أن العماد يخرج "حزب الله" من الدولة، وهو الشريك الفاعل في مؤسساتها، ليدخله مجدداً في نعيم الدولة الموعودة برفقته حصراً، ولربما بجوار ممثلي اللقاءات السائرة على هدي الزمجرة السورية ووقعها. وإنقاذاً لهذه الرؤية الاستشرافية، يدغدغ العماد مشاعر "حزب الله" لناحية الحرص على أمنه، جاعلاً من هذا التدبير محور الحل وخاتمة الحديث ومفصل التاريخ وعصب الدولة وعلَّة وجودها.
فجواباً على السؤال المحدد: أين يكمن الحل؟ ينبري العماد مشدداً "أي عقل يقبل بنزع السلاح قبل أن يغطي أمن الحزب؟ (بالمناسبة، من قال عكس ذلك؟) هذا أمر لم تضمنه الدولة، (أين سمح لها بذلك وكيف؟) ولا قدرة لديها عليه". وينهي بحكم مسموم تخويني صارخ: "لو أن الدولة الحالية كانت مسؤولة، لكانت إسرائيل حققت ما أرادته".
هكذا يمر بناء الدولة على أجساد الخونة، بشحطة قلم، وتُرفع المسؤولية عن كاهل "حزب الله" في الحرب والسلم، وتلقى "الأكثرية المسروقة" لتكتوي بنار الجحيم. بعدئذٍ، فقط بعدئذ، يعم الخير والجمال وتستوي العدالة على قوس التاريخ.
أخيراً، ولكي توزع السهام بالقسطاس على مستحقيها، يخص العماد الرئيس السنيورة بلفتة إلغائية هي بمثابة طعنة قاتلة تخرجه نهائياً من الوطن، بموجب الأحكام العرفية الميدانية. التهمة الموجهة إلى السنيورة بالغة السوء والخطورة، إذ إنه يحظى بشرعية دولية غير مستساغة من العماد، فبئس مصير غاصب السلطة، مدعي الصفة والرجولة المدعو فؤاد السنيورة. "وليحكم إذاً عندهم وليس عندنا. فليعطوه ولاية في الولايات المتحدة أو منطقة في فرنسا يحكم فيها".
بتعبير أوضح، فليرحل خادم الأجنبي وصنيعته، فنحن هنا والغد لنا، نحن أهل الحل والربط، ودوننا الفناء.
أبشروا يا قوم. عاش لبنان.

0 Comments:

Post a Comment

<< Home