من الذي يجب أن يعتذر؟
من الذي يجب أن يعتذر؟
بقلم: ناصح أمين *
أخبار الشرق - 23 أيلول 2004
وصلتني نشرة كلنا شركاء الإلكترونية بتاريخ 21/9/2004، وجدت فيها مقالاً للأستاذ ميشيل كيلو تحت عنوان "رسالة إلى أخ مسلم". قرأت المقال أكثر من مرة (..) وفهمت من مقالته التالي:
- أن الإخوان المسلمين في السبعينات انعطفوا نحو العنف الطائفي، وبسبب ذلك حصلت كل الكوارث السياسية التي عانت منها البلاد وما تزال تعاني.
- يطالب (الكاتب) الإخوان المسلمين بالاعتذار الصريح حول الأحداث التي حصلت في الثمانينات، بحيث لا يحتمل الاعتذار أي تأويل.
- هناك هوة بين كلام الإخوان المسلمين وأفعالهم.
إن تقييم أي مرحلة أو حدث يحتاج أن يقدم كل طرف شارك في الحدث وجهة نظره، ليكون القارئ على بينة من الأمور ولا تبقى التحليلات والتأويلات ملكاً لطرف واحد وبناء عليها يصدر أحكامه بحق الآخرين، فكان لزاماً على الأستاذ ميشيل أن يسمع للطرف الآخر (الاخوان) فيطلع على وجهة نظرهم كاملة، ثم بعد ذلك إذا كان فعلاً يريد أن يكون منصفاً وغيوراً على البلد أن يتكلم بما يمليه عليه ضميره. لكن يظهر أنه سمع طرفاً بسيطاً من وجهة النظر الأخرى بينما تبنى وجهة نظر النظام بالكامل (..).
والآن نأتي إلى كلام الأستاذ ميشيل في مقاله، لنوضح للقارئ من الطرف الذي كان وراء تكريس الطائفية، ومن الذي استغل الطائفية في أبشع صورها، ومن الذي استخدم العنف السياسي والعسكري بحق الآخر وبصورة طائفية ممجوجة. ثم لنرى هل فعلاً أن الإخوان هم من بدأ بمسلسل العنف الطائفي، ثم بعد ذلك نعرج إلى التناقض ما بين أقوال الإخوان وأفعالهم. وقبل الدخول في التفاصيل لا بد من وضع بعض النقاط المهمة كاستهلال ضروري:
- كنت أتمنى أن لا يتم التعرض للقضية الطائفية، ولكن طالما أن الاستاذ ميشيل تعرض لها فيصبح من الواجب التعرض لها، لأن نصف الكلام لايعطي جواباً شافياً.
- فهمت من كلامه، وكأن الكاتب الطاهر إبراهيم متحدث رسمي للإخوان ولكنني، قرأت له أكثر من مقال فسألت أحد اعضاء الإخوان لاعتقادي أنه مقرب من قيادتهم، فكان جوابه بعد مدة أن المذكور لا يمثل الجماعة، بل هو عضو عادي، رغم أنه من الإخوان القدامى، وأن للجماعة قنوات رسمية تتحدث باسمها.
- إنني لست من الاخوان، لكنني قريب منهم بسبب خلفيتي الاسلامية، وقد عاصرت الأحداث وسمعت من الكثيرين، إخواناً ويساريين وعلمانيين وبعثيين ومستقلين وشخصيات كان لها دور في العمل السياسي في سورية، وكلها على دراية بالذي حصل. وهذا يدفعني إلى أن أوضح بعض الامور التي قد تكون غائبة عن الكثيرين.
- لا ينكر عاقل أن الاعتراف بالخطأ فضيلة، والاعتراف خير من التمادي، ولكن طالما أن هناك جهتين شاركتا في الأحداث فالواجب على كل طرف أن يعترف بالطريقة التي يوضح فيها حجم الخطأ الذي ارتكبه.
والآن لنبدأ بتفنيد كلام أستاذنا، وليعذرني القارئ الكريم عن الإطالة، لأن الموضوع خطير ومهم وحساس، ويتطلب عرض الأمور بشكل مفصل دون اختزال.
أولاً: وصول حزب "البعث" للسلطة والاستغلال الطائفي:
- في الثامن من آذار وصل "البعث" للسلطة بانقلاب عسكري، بينما الإخوان رفضوا هذا الاسلوب وعلى لسان مسؤول الجماعة آنذاك الاستاذ عصام العطار، وهذا معروف لكل من عاصر الحياة السياسية في ذلك الحين.
- البعثيون وغيرهم وقعوا على وثيقة الانفصال عن مصر، بينما رفض الاخوان التوقيع عليها، وهذا ما سبب لهم بعض المشكلات مع الحكومة آنذاك.
- ذكر الرئيس السابق أمين الحافظ في برنامج "شاهد على العصر" في قناة الجزيرة كيف كان يتم تسريح بعض الضباط من الجيش، وجلهم من أهل السنة، وأكد ذلك الأستاذ أحمد أبو صالح عضو قيادة الحزب في الفترة نفسها (1963 - 1966).
- بمجرد وصول حزب "البعث" إلى السلطة، تم فرض قانون الطوارئ والأحكام العرفية وما نشأ عنها من قوانين استثنائية، استخدمت كلها بكل قسوة مع مكونات الشعب السوري، واكتشف المواطنون أن "إسرائيل" (التي يعتبر القانون موجهاً ضدها) هي سورية (التي استُخدم القانون بحقها)!
- تم إنشاء أكثر من ثلاثة عشر جهاز أمن ومخابرات ومئات فروع التحقيق المنتشرة في كل محافظات القطر، وجل هذه الأجهزة يرأسها أشخاص من (أبناء طائفة واحدة من طوائف الشعب السوري)، كما تم تشكيل مليشيات خاصة خارج نطاق الجيش وسيطرته، ويشكل (أبناء الطائفة نفسها) خمسة وتسعين في المائة من أفراد هذه المليشيات.
- أقدم الرئيس الراحل حافظ الأسد على تسريح آلاف الضباط وأغلبهم من أهل السنة، وسجلات المؤسسة العسكرية شاهدة على ذلك، كما تم استبعاد أو قتل أو اعتقال أو نفي كل الشخصيات البعثية التي يتوقع أن تشكل له أي معارضة، مثل قتل صلاح البيطار، وسجن صلاح جديد ونفي ميشيل عفلق وغيرهم كثير.
- في سنة 1964 قاد الإخوان مظاهرات سلمية، أبدوا فيها اعتراضهم على نهج حزب "البعث" الاستئصالي والمعادي للإسلام، وحينها صرح حافظ الأسد في حماة بأن البعثيين سيصفون الإخوان جسدياً.
- وفي نفس العام قاد العسكريون البعثيون (..) حملة عسكرية على مدينة حماة، وتم تهديم جامع السلطان وقتل العشرات. وذكر الضابط نبهان أن تدمير حماة كان مخططاً له منذ ذلك الوقت.
- لدى وصول حافظ الأسد للحكم بداية السبعينات صرح رفعت الأسد بأنه سيعمل على محو مدينة حماة من الخارطة السورية، وفي سنة 1980 قال أيضاً إنه كان في سورية ثلاثة: الله والإسلام و"البعث"، ولقد قضينا على الاثنين وبقي "البعث".
- وفي 25/6/1967 كتب ابراهيم خلاص في مجلة جيش الشعب - العدد 794: "الطريق الوحيد لتشييد حضارة العرب وبناء المجتمع العربي هي خلق الانسان الاشتراكي الجديد، الذي يؤمن أن الله والأديان والإقطاع ورأس المال والاستعمار وكل القيم التي سادت في المجتمع السابق؛ ليست إلا دمى محنطة في متاحف التاريخ".
- (كثير من) الضباط والعسكريين والساسة أكدوا أن القنيطرة سقطت ببلاغ عسكري كاذب نُسب إلى وزير الدفاع آنذاك، وأن سقوط الجولان يمثل خيانة عظمى. ويكفينا كتاب "سقوط الجولان" للضابط خليل مصطفى بريز، وكتاب "كسرة خبز" لوزير الإعلام سابقاً سامي الجندي، وكتاب "المؤامرة ومعركة المصير" لرئيس وزراء الأردني الأسبق سعد جمعة، وشهادة وزير الصحة الدكتور عبد الرحمن الأكتع، وشهادة الدكتور دريد المفتي المفوض بالسفارة السورية في مدريد، وشهادة اللواء أحمد سويداني، وغيرهم كثر، حيث أكدوا أن سقوط القنيطرة والجولان كان خيانة عظمى، لم يحاسب عليها الضباط الكبار.
- وفي عام 1974 نشرت مجلة جيل الثورة في العدد 85 صورة امرأة عارية متكئة على قبة مسجد، وقد كتب على عورتها المغلظة لفظ الجلالة.
- وفي عام 1980 تم لقاء بين حافظ الأسد ومساعد وزير الخارجية الأمريكي فيليب حبيب، وكان المترجم الطبيب الخاص لحافظ الأسد جوزيف الصايغ الذي قتله النظام لأنه كشف عن حيثيات اللقاء، والذي أبدى فيه حبيب استعداد أمريكا لمواصلة دعم حافظ الاسد، بما في ذلك تدمير مدينة حماة والقضاء على الاخوان مقابل قضاء الأسد على الفلسطينيين في لبنان.
- وجاء في مقررات المؤتمر القطري لحزب "البعث" لعامي 1965 و1980 ما اقترحه حافظ الاسد بالعمل على القضاء على الاخوان.
- وفي المؤتمر الطلابي في جامعة دمشق عام 1975 حرض حافظ الاسد الطلبة البعثيين (..) على القضاء وتصفية الاساتذة الرجعيين الاسلاميين، تحت حجة عرقلة مسيرة الحزب والثورة.
- وفي الشهر العاشر عام 1981 صدرت الأوامر بنزع الحجاب عن المسلمات في كل محافظات القطر، ومنع كل محجبة من دخول الجامعة أو المدرسة أو مكان العمل.
- وفي الشهر الثاني عام 1980 نشرت مجلة الفرسان العدد 127 على لسان رفعت الاسد: أريد من حكام العرب أن يفهموا من سورية كل شيء وليجعلوا من الرفيق الاسد قبلة يعبدونها بدلاً من الركوع أمام أوثان الاسلام.
- وفي الشهر التاسع عام 1979 صدرت المراسيم ذات الأرقام 1249 و1250 و1256، والتي بموجبها تم ابعاد وتسريح المعلمين والمدرسين ذوي الاتجاه الاسلامي.
- وفي عام 1971 تم تشكيل المجلس الاعلامي من سبعة عشرة شخصية (12 علوياً و4 سنة و1 مسيحي).
- غالبية الطلاب المبتعثين ينتمون حصراً إلى (طائفة واحدة).
- وفي عام 1979 عندما وقعت حادثة مدرسة المدفعية ثبت ان اكثر من 90 في المائة من الطلاب كانوا (من طائفة واحدة). ولقد أصدر الإخوان بياناً واضحاً استنكروا فيه الحادثة، حتى أن حافظ الاسد قال لا علاقة للإخوان بهذه الحادثة.
- ان القيادات العسكرية ورؤساء أجهزة الأمن والمخابرات وبعض الوزارات وخاصة الحساسة والمهمة والمليشيات الخاصة والحرس الجمهوري منذ (1963 وإلى يومنا هذا) كلهم من (طائفة واحدة). ومن أراد الدليل، فإنني مستعد لأن أزوده بقوائم الأسماء والرتب والوظيفة لكل هؤلاء.
- صرح عبد الحليم خدام عام 1982 عندما كانت المؤسسة العسكرية تستعد لتدمير مدينة حماة أن فيها مائتي مسلح، ومقابل هؤلاء قام الجيش والميليشيات الخاصة بقتل أكثر من ثلاثين ألف مقاتل وتدمير ثلث المدينة بما فيها ثمانون مسجداً وأربع كنائس.
- ارتكبت قوات الجيش والميليشيات الخاصة عشرات المجازر الجماعية في سجن تدمر وحي المشارقة في حلب وجسر الشغور وسرمدا ومسجد الروضة في حلب واللاذقية ودير الزور، وغيرها من محافظات القطر، وقتل بسبب هذه المجازر عشرات الألوف من المواطنين.
- وفي عام 1980 صدر قانون العار رقم 49 والذي يقضي بالإعدام على كل من ينتسب للإخوان في الوقت الذي لم تكن فيه الاحداث على اشدها.
- بلغ عدد المعتقلين والمفقودين من الاخوان ومؤيديهم عشرات الألوف، وهؤلاء لا بواكي لهم (..).
بعد كل ذلك ماذا تقول يا أستاذ ميشيل؟ فمن الذي كرس الطائفية ومن بدأ بالعنف ومن الذي ناصب الآخرين العداء؟ (..).
ومع ذلك، حسب علمي أن جماعة الاخوان دعت لتشكيل لجنة مستقلة تقوم بتقصي الحقائق لتسمع من كل الأطراف ثم تصدر قولها الفصل في الأحداث، والإخوان مستعدون حينها لتحمل كامل المسؤولية في ما يخصهم من أخطاء ارتكبوها.
ثانياً: رغم كل الذي حصل، حاول الإخوان وفي كل مناسبة أن يعبروا عن منهجهم الأصيل، لكن النظام أغلق كل الأبواب والنوافذ وتركها مفتوحة لاجهزة الامن والمخابرات.
- ومع استلام الرئيس بشار الأسد للحكم بطريقة غريبة معروفة للجميع، صرح الإخوان بالتعالي على الجراح ونسيان الماضي وفتح صفحة جديدة، لكن النظام "طنش" كل ذلك وكأن الأمر لا يعنيه.
- وبعد التهديدات الأمريكية لسورية، صرح الإخوان في أكثر من مناسبة أنهم لا يمكنهم أن يستقووا بالخارج على وطنهم.
- لم تعقد ندوة أو حوار الا وكان الاخوان فيها إيجابيين، يمدون يد التصافح، بينما كان النظام يحظر على الآخرين الالتقاء مع الاخوان.
- أصدر الإخوان ميثاق الشرف ومشروعهم الحضاري الذي عبروا فيهم عن رؤيتهم لسورية المستقبل، ومع ذلك كان رد النظام على لسان المسؤولين بأن الإصلاح وهم لا أحد يتوقعه، وخاصة تصريحات عبد الحليم خدام الاخيرة.
- صرح فاروق الشرع في عيد الصحفيين بأن الإخوان تعرضوا للظلم، والمعروف أن من يعترف بظلمه للآخرين عليه المبادرة لرفع حيف هذا الظلم، فهل فعل ذلك النظام؟
- كل الذين يلتقون مع شخصيات اخوانية يجدون الإخوان جادين فعلاً في طروحاتهم، وانني من الذين حاوروا عدة شخصيات إخوانية على مستوى القيادة، فوجدت منهم عزماً قوياً في طرحهم، بل وجدت منهم دفعاً قوياً بهذا الاتجاه أكثر من تيارات أخرى في المعارضة.
ثالثا: إنني مع الاعتذار والاعتراف بالأخطاء من كلا الطرفين، وكل حسب مساهمته في الذي حصل، أما أن يكون الاعتذار من طرف واحد هو الاخوان، بينما الطرف الآخر متعجرف ومتعال ويرفض كل أشكال المصالحة الوطنية، بل يزيد الطين بلة عندما يكثف من الاعتقالات والعمل بقانون الطوارئ والاحكام العرفية ويرفض الحوار ويغلق الباب أمام أي بادرة، فإنني أعتقد أننا ما زلنا نعيش العهد الماضي وكفانا ضحكاً على أنفسنا.
وكم أتمنى أن يكون في سورية مئات مثل الأستاذ رياض الترك، الذي لم يرهبه سوط الجلاد والسجان. فرغم سنوات الاعتقال الطويلة، لم يجامل ويرواغ .. كان ذلك بإمكانه، لكنه لا يريد أن يكون إمعة.
وإذا كان النظام جاداً في مصالحة وطنية، فأين جماعة ربيع دمشق؟ وأين أعضاء مجلس الشعب الذين اعتقلوا لمجرد أنهم انتقدوا تصرفاً غير دستوري؟ وهل المصالحة تقتضي اعتقال حتى الأطفال وإحالتهم إلى محاكم أمن الدولة؟ (..).
ثم إلى متى سيصبر هذا الشعب وبلدنا تتهدده المخاطر، وأصبحت حدودنا الشرقية محاطة بقوات غازية ستحيل البلد - لا سمح الله - إلى قاع صفصف؟ فهل أصبح الزعيم أهم من الارض؟ وإلى متى ستبقى الرؤوس مدفونة في الرمال، وإلى متى سنبقى كالنعامة؟ وإلى متى سنبقى سذجاً نتأرجح بين وعود الاصلاح، فينطبق علينا المثل القائل "أسمع جعجعة ولا أرى طحناً"؟
إلى متى سنبقى نمجد الأصنام فينطبق علينا قول الشاعر عمر أبو ريشة رحمه الله:
أمتي كم صنم مجدته لم يكن يحمل طهر الصنم
لا يلام الذئب في عدوانه إن يكُ الراعي عدو الغنم
_________
* كاتب سوري - برلين
بقلم: ناصح أمين *
أخبار الشرق - 23 أيلول 2004
وصلتني نشرة كلنا شركاء الإلكترونية بتاريخ 21/9/2004، وجدت فيها مقالاً للأستاذ ميشيل كيلو تحت عنوان "رسالة إلى أخ مسلم". قرأت المقال أكثر من مرة (..) وفهمت من مقالته التالي:
- أن الإخوان المسلمين في السبعينات انعطفوا نحو العنف الطائفي، وبسبب ذلك حصلت كل الكوارث السياسية التي عانت منها البلاد وما تزال تعاني.
- يطالب (الكاتب) الإخوان المسلمين بالاعتذار الصريح حول الأحداث التي حصلت في الثمانينات، بحيث لا يحتمل الاعتذار أي تأويل.
- هناك هوة بين كلام الإخوان المسلمين وأفعالهم.
إن تقييم أي مرحلة أو حدث يحتاج أن يقدم كل طرف شارك في الحدث وجهة نظره، ليكون القارئ على بينة من الأمور ولا تبقى التحليلات والتأويلات ملكاً لطرف واحد وبناء عليها يصدر أحكامه بحق الآخرين، فكان لزاماً على الأستاذ ميشيل أن يسمع للطرف الآخر (الاخوان) فيطلع على وجهة نظرهم كاملة، ثم بعد ذلك إذا كان فعلاً يريد أن يكون منصفاً وغيوراً على البلد أن يتكلم بما يمليه عليه ضميره. لكن يظهر أنه سمع طرفاً بسيطاً من وجهة النظر الأخرى بينما تبنى وجهة نظر النظام بالكامل (..).
والآن نأتي إلى كلام الأستاذ ميشيل في مقاله، لنوضح للقارئ من الطرف الذي كان وراء تكريس الطائفية، ومن الذي استغل الطائفية في أبشع صورها، ومن الذي استخدم العنف السياسي والعسكري بحق الآخر وبصورة طائفية ممجوجة. ثم لنرى هل فعلاً أن الإخوان هم من بدأ بمسلسل العنف الطائفي، ثم بعد ذلك نعرج إلى التناقض ما بين أقوال الإخوان وأفعالهم. وقبل الدخول في التفاصيل لا بد من وضع بعض النقاط المهمة كاستهلال ضروري:
- كنت أتمنى أن لا يتم التعرض للقضية الطائفية، ولكن طالما أن الاستاذ ميشيل تعرض لها فيصبح من الواجب التعرض لها، لأن نصف الكلام لايعطي جواباً شافياً.
- فهمت من كلامه، وكأن الكاتب الطاهر إبراهيم متحدث رسمي للإخوان ولكنني، قرأت له أكثر من مقال فسألت أحد اعضاء الإخوان لاعتقادي أنه مقرب من قيادتهم، فكان جوابه بعد مدة أن المذكور لا يمثل الجماعة، بل هو عضو عادي، رغم أنه من الإخوان القدامى، وأن للجماعة قنوات رسمية تتحدث باسمها.
- إنني لست من الاخوان، لكنني قريب منهم بسبب خلفيتي الاسلامية، وقد عاصرت الأحداث وسمعت من الكثيرين، إخواناً ويساريين وعلمانيين وبعثيين ومستقلين وشخصيات كان لها دور في العمل السياسي في سورية، وكلها على دراية بالذي حصل. وهذا يدفعني إلى أن أوضح بعض الامور التي قد تكون غائبة عن الكثيرين.
- لا ينكر عاقل أن الاعتراف بالخطأ فضيلة، والاعتراف خير من التمادي، ولكن طالما أن هناك جهتين شاركتا في الأحداث فالواجب على كل طرف أن يعترف بالطريقة التي يوضح فيها حجم الخطأ الذي ارتكبه.
والآن لنبدأ بتفنيد كلام أستاذنا، وليعذرني القارئ الكريم عن الإطالة، لأن الموضوع خطير ومهم وحساس، ويتطلب عرض الأمور بشكل مفصل دون اختزال.
أولاً: وصول حزب "البعث" للسلطة والاستغلال الطائفي:
- في الثامن من آذار وصل "البعث" للسلطة بانقلاب عسكري، بينما الإخوان رفضوا هذا الاسلوب وعلى لسان مسؤول الجماعة آنذاك الاستاذ عصام العطار، وهذا معروف لكل من عاصر الحياة السياسية في ذلك الحين.
- البعثيون وغيرهم وقعوا على وثيقة الانفصال عن مصر، بينما رفض الاخوان التوقيع عليها، وهذا ما سبب لهم بعض المشكلات مع الحكومة آنذاك.
- ذكر الرئيس السابق أمين الحافظ في برنامج "شاهد على العصر" في قناة الجزيرة كيف كان يتم تسريح بعض الضباط من الجيش، وجلهم من أهل السنة، وأكد ذلك الأستاذ أحمد أبو صالح عضو قيادة الحزب في الفترة نفسها (1963 - 1966).
- بمجرد وصول حزب "البعث" إلى السلطة، تم فرض قانون الطوارئ والأحكام العرفية وما نشأ عنها من قوانين استثنائية، استخدمت كلها بكل قسوة مع مكونات الشعب السوري، واكتشف المواطنون أن "إسرائيل" (التي يعتبر القانون موجهاً ضدها) هي سورية (التي استُخدم القانون بحقها)!
- تم إنشاء أكثر من ثلاثة عشر جهاز أمن ومخابرات ومئات فروع التحقيق المنتشرة في كل محافظات القطر، وجل هذه الأجهزة يرأسها أشخاص من (أبناء طائفة واحدة من طوائف الشعب السوري)، كما تم تشكيل مليشيات خاصة خارج نطاق الجيش وسيطرته، ويشكل (أبناء الطائفة نفسها) خمسة وتسعين في المائة من أفراد هذه المليشيات.
- أقدم الرئيس الراحل حافظ الأسد على تسريح آلاف الضباط وأغلبهم من أهل السنة، وسجلات المؤسسة العسكرية شاهدة على ذلك، كما تم استبعاد أو قتل أو اعتقال أو نفي كل الشخصيات البعثية التي يتوقع أن تشكل له أي معارضة، مثل قتل صلاح البيطار، وسجن صلاح جديد ونفي ميشيل عفلق وغيرهم كثير.
- في سنة 1964 قاد الإخوان مظاهرات سلمية، أبدوا فيها اعتراضهم على نهج حزب "البعث" الاستئصالي والمعادي للإسلام، وحينها صرح حافظ الأسد في حماة بأن البعثيين سيصفون الإخوان جسدياً.
- وفي نفس العام قاد العسكريون البعثيون (..) حملة عسكرية على مدينة حماة، وتم تهديم جامع السلطان وقتل العشرات. وذكر الضابط نبهان أن تدمير حماة كان مخططاً له منذ ذلك الوقت.
- لدى وصول حافظ الأسد للحكم بداية السبعينات صرح رفعت الأسد بأنه سيعمل على محو مدينة حماة من الخارطة السورية، وفي سنة 1980 قال أيضاً إنه كان في سورية ثلاثة: الله والإسلام و"البعث"، ولقد قضينا على الاثنين وبقي "البعث".
- وفي 25/6/1967 كتب ابراهيم خلاص في مجلة جيش الشعب - العدد 794: "الطريق الوحيد لتشييد حضارة العرب وبناء المجتمع العربي هي خلق الانسان الاشتراكي الجديد، الذي يؤمن أن الله والأديان والإقطاع ورأس المال والاستعمار وكل القيم التي سادت في المجتمع السابق؛ ليست إلا دمى محنطة في متاحف التاريخ".
- (كثير من) الضباط والعسكريين والساسة أكدوا أن القنيطرة سقطت ببلاغ عسكري كاذب نُسب إلى وزير الدفاع آنذاك، وأن سقوط الجولان يمثل خيانة عظمى. ويكفينا كتاب "سقوط الجولان" للضابط خليل مصطفى بريز، وكتاب "كسرة خبز" لوزير الإعلام سابقاً سامي الجندي، وكتاب "المؤامرة ومعركة المصير" لرئيس وزراء الأردني الأسبق سعد جمعة، وشهادة وزير الصحة الدكتور عبد الرحمن الأكتع، وشهادة الدكتور دريد المفتي المفوض بالسفارة السورية في مدريد، وشهادة اللواء أحمد سويداني، وغيرهم كثر، حيث أكدوا أن سقوط القنيطرة والجولان كان خيانة عظمى، لم يحاسب عليها الضباط الكبار.
- وفي عام 1974 نشرت مجلة جيل الثورة في العدد 85 صورة امرأة عارية متكئة على قبة مسجد، وقد كتب على عورتها المغلظة لفظ الجلالة.
- وفي عام 1980 تم لقاء بين حافظ الأسد ومساعد وزير الخارجية الأمريكي فيليب حبيب، وكان المترجم الطبيب الخاص لحافظ الأسد جوزيف الصايغ الذي قتله النظام لأنه كشف عن حيثيات اللقاء، والذي أبدى فيه حبيب استعداد أمريكا لمواصلة دعم حافظ الاسد، بما في ذلك تدمير مدينة حماة والقضاء على الاخوان مقابل قضاء الأسد على الفلسطينيين في لبنان.
- وجاء في مقررات المؤتمر القطري لحزب "البعث" لعامي 1965 و1980 ما اقترحه حافظ الاسد بالعمل على القضاء على الاخوان.
- وفي المؤتمر الطلابي في جامعة دمشق عام 1975 حرض حافظ الاسد الطلبة البعثيين (..) على القضاء وتصفية الاساتذة الرجعيين الاسلاميين، تحت حجة عرقلة مسيرة الحزب والثورة.
- وفي الشهر العاشر عام 1981 صدرت الأوامر بنزع الحجاب عن المسلمات في كل محافظات القطر، ومنع كل محجبة من دخول الجامعة أو المدرسة أو مكان العمل.
- وفي الشهر الثاني عام 1980 نشرت مجلة الفرسان العدد 127 على لسان رفعت الاسد: أريد من حكام العرب أن يفهموا من سورية كل شيء وليجعلوا من الرفيق الاسد قبلة يعبدونها بدلاً من الركوع أمام أوثان الاسلام.
- وفي الشهر التاسع عام 1979 صدرت المراسيم ذات الأرقام 1249 و1250 و1256، والتي بموجبها تم ابعاد وتسريح المعلمين والمدرسين ذوي الاتجاه الاسلامي.
- وفي عام 1971 تم تشكيل المجلس الاعلامي من سبعة عشرة شخصية (12 علوياً و4 سنة و1 مسيحي).
- غالبية الطلاب المبتعثين ينتمون حصراً إلى (طائفة واحدة).
- وفي عام 1979 عندما وقعت حادثة مدرسة المدفعية ثبت ان اكثر من 90 في المائة من الطلاب كانوا (من طائفة واحدة). ولقد أصدر الإخوان بياناً واضحاً استنكروا فيه الحادثة، حتى أن حافظ الاسد قال لا علاقة للإخوان بهذه الحادثة.
- ان القيادات العسكرية ورؤساء أجهزة الأمن والمخابرات وبعض الوزارات وخاصة الحساسة والمهمة والمليشيات الخاصة والحرس الجمهوري منذ (1963 وإلى يومنا هذا) كلهم من (طائفة واحدة). ومن أراد الدليل، فإنني مستعد لأن أزوده بقوائم الأسماء والرتب والوظيفة لكل هؤلاء.
- صرح عبد الحليم خدام عام 1982 عندما كانت المؤسسة العسكرية تستعد لتدمير مدينة حماة أن فيها مائتي مسلح، ومقابل هؤلاء قام الجيش والميليشيات الخاصة بقتل أكثر من ثلاثين ألف مقاتل وتدمير ثلث المدينة بما فيها ثمانون مسجداً وأربع كنائس.
- ارتكبت قوات الجيش والميليشيات الخاصة عشرات المجازر الجماعية في سجن تدمر وحي المشارقة في حلب وجسر الشغور وسرمدا ومسجد الروضة في حلب واللاذقية ودير الزور، وغيرها من محافظات القطر، وقتل بسبب هذه المجازر عشرات الألوف من المواطنين.
- وفي عام 1980 صدر قانون العار رقم 49 والذي يقضي بالإعدام على كل من ينتسب للإخوان في الوقت الذي لم تكن فيه الاحداث على اشدها.
- بلغ عدد المعتقلين والمفقودين من الاخوان ومؤيديهم عشرات الألوف، وهؤلاء لا بواكي لهم (..).
بعد كل ذلك ماذا تقول يا أستاذ ميشيل؟ فمن الذي كرس الطائفية ومن بدأ بالعنف ومن الذي ناصب الآخرين العداء؟ (..).
ومع ذلك، حسب علمي أن جماعة الاخوان دعت لتشكيل لجنة مستقلة تقوم بتقصي الحقائق لتسمع من كل الأطراف ثم تصدر قولها الفصل في الأحداث، والإخوان مستعدون حينها لتحمل كامل المسؤولية في ما يخصهم من أخطاء ارتكبوها.
ثانياً: رغم كل الذي حصل، حاول الإخوان وفي كل مناسبة أن يعبروا عن منهجهم الأصيل، لكن النظام أغلق كل الأبواب والنوافذ وتركها مفتوحة لاجهزة الامن والمخابرات.
- ومع استلام الرئيس بشار الأسد للحكم بطريقة غريبة معروفة للجميع، صرح الإخوان بالتعالي على الجراح ونسيان الماضي وفتح صفحة جديدة، لكن النظام "طنش" كل ذلك وكأن الأمر لا يعنيه.
- وبعد التهديدات الأمريكية لسورية، صرح الإخوان في أكثر من مناسبة أنهم لا يمكنهم أن يستقووا بالخارج على وطنهم.
- لم تعقد ندوة أو حوار الا وكان الاخوان فيها إيجابيين، يمدون يد التصافح، بينما كان النظام يحظر على الآخرين الالتقاء مع الاخوان.
- أصدر الإخوان ميثاق الشرف ومشروعهم الحضاري الذي عبروا فيهم عن رؤيتهم لسورية المستقبل، ومع ذلك كان رد النظام على لسان المسؤولين بأن الإصلاح وهم لا أحد يتوقعه، وخاصة تصريحات عبد الحليم خدام الاخيرة.
- صرح فاروق الشرع في عيد الصحفيين بأن الإخوان تعرضوا للظلم، والمعروف أن من يعترف بظلمه للآخرين عليه المبادرة لرفع حيف هذا الظلم، فهل فعل ذلك النظام؟
- كل الذين يلتقون مع شخصيات اخوانية يجدون الإخوان جادين فعلاً في طروحاتهم، وانني من الذين حاوروا عدة شخصيات إخوانية على مستوى القيادة، فوجدت منهم عزماً قوياً في طرحهم، بل وجدت منهم دفعاً قوياً بهذا الاتجاه أكثر من تيارات أخرى في المعارضة.
ثالثا: إنني مع الاعتذار والاعتراف بالأخطاء من كلا الطرفين، وكل حسب مساهمته في الذي حصل، أما أن يكون الاعتذار من طرف واحد هو الاخوان، بينما الطرف الآخر متعجرف ومتعال ويرفض كل أشكال المصالحة الوطنية، بل يزيد الطين بلة عندما يكثف من الاعتقالات والعمل بقانون الطوارئ والاحكام العرفية ويرفض الحوار ويغلق الباب أمام أي بادرة، فإنني أعتقد أننا ما زلنا نعيش العهد الماضي وكفانا ضحكاً على أنفسنا.
وكم أتمنى أن يكون في سورية مئات مثل الأستاذ رياض الترك، الذي لم يرهبه سوط الجلاد والسجان. فرغم سنوات الاعتقال الطويلة، لم يجامل ويرواغ .. كان ذلك بإمكانه، لكنه لا يريد أن يكون إمعة.
وإذا كان النظام جاداً في مصالحة وطنية، فأين جماعة ربيع دمشق؟ وأين أعضاء مجلس الشعب الذين اعتقلوا لمجرد أنهم انتقدوا تصرفاً غير دستوري؟ وهل المصالحة تقتضي اعتقال حتى الأطفال وإحالتهم إلى محاكم أمن الدولة؟ (..).
ثم إلى متى سيصبر هذا الشعب وبلدنا تتهدده المخاطر، وأصبحت حدودنا الشرقية محاطة بقوات غازية ستحيل البلد - لا سمح الله - إلى قاع صفصف؟ فهل أصبح الزعيم أهم من الارض؟ وإلى متى ستبقى الرؤوس مدفونة في الرمال، وإلى متى سنبقى كالنعامة؟ وإلى متى سنبقى سذجاً نتأرجح بين وعود الاصلاح، فينطبق علينا المثل القائل "أسمع جعجعة ولا أرى طحناً"؟
إلى متى سنبقى نمجد الأصنام فينطبق علينا قول الشاعر عمر أبو ريشة رحمه الله:
أمتي كم صنم مجدته لم يكن يحمل طهر الصنم
لا يلام الذئب في عدوانه إن يكُ الراعي عدو الغنم
_________
* كاتب سوري - برلين
0 Comments:
Post a Comment
<< Home