Wednesday, April 13, 2005

لبنان بعد الحريري: رؤية جـيل الحـرب الـمهـاجِـر

الرابع عشر من شباط 2005 يوم له ما بعده. فاغتيال الرئيس رفيق الحريري فتح الساحة اللبنانية والإقليمية على احتمالات عديدة. السؤال الأساسي هو عن مدى استعداد لبنان لمواجهة هذه الإحتمالات واستغلالها. بغض النظر عن الجهة القاتلة، فإنّ انفجار الغضب الشعبي ضدّ الوجود العسكري- وأساساً الاستخباري - السوري وسيطرته على تفاصيل الحياة السياسية والإقتصادية اليومية أمر لافت للنظر. صحيح أن التحليل الذي يتّهم الأجهزة السورية بالإغتيال له ما يبرّره. لكنّ الصحيح أيضاً هو أنّ جهات أخرى كالولايات المتحدة مثلاً قد تكون لها مبرراتها هي الأخرى لاغتيال رفيق الحريري. وبالتالي فإنّ الترجمة التلقائيّة لمشاعر الحزن على رفيق الحريري إلى المطالبة بالتخلص من السيطرة السورية على لبنان تستحق التوقف عندها. من وجهة نظري فإنّ هذه الترجمة لا يبرّرها وضوح الأدلّة المادّية الجنائيّة بقدر ما يبرّرها شعور عارم لدى اللبنانيين بأنّ لبنان كان قد دخل بعد التمديد لإميل لحّود معركةً سياسيةً ذات طابع مختلف نوعياً عن سابقاتها. و كانت استقالة رفيق الحريري ورفضه المشاركة في سلطة اعتبرها مع معظم اللبنانيين غير دستوريّة قد حدّدت موقع الفصل في هذه المعركة. وليس سراً أن التمديد للرئيس لحّود جاء بقرارٍ سوري وتنفيذٍ أقلّ ما يُقال فيه هو أنه خلا من أيّ إخراج لبق. جاء اغتيال رفيق الحريري ليُخرج هذه المعركة السياسية من منطقها اليومي إلى منطق وطنيّ- مستقبلي، أقلّه في نظر عديد من اللبنانيين. من هنا يصبح السؤال المهم، وربّما الأهمّ، هو: إلى ماذا تستند الرؤية القائلة إنّ لبنان اليوم على مفترق تاريخي هو بالضبط الحدّ الفصل بين لبنان "قديم" غير ديموقراطي، غير عادل، وغير مالك لقراره السياسيّ، ولبنان "جديد" ديموقراطي عادل وذي سيادة؟
من حيث المبدأ يُفترض أن تستند رؤية كهذه إلى مواقع سياسيّة متناقضة ومشاريعَ مستقبليّة مختلفة يقف الواحد منها في مواجهة الآخر. يُفترض أيضاً أن تكون هذه المشاريع وليدة تبلور تاريخيّ لنظرتين ( أو ثلاث أو عشر...) ولدتا بعد انتهاء الحرب الأهليّة. هل نحن فعلاً داخل، أو أقله على عتبة، مرحلة كهذه؟ هل يكفي وجود معارضة وموالاة في ساحة سياسيّة لتبرير القول بأننا على مفترق تاريخي؟ للإجابة عن هذه الأسئلة لا بدّ من التدقيق في مواقف المعارضة والموالاة والمقارنة بينها. والهدف الأساسيّ من هذه المقارنة هو إنزال معايير موضوعيّة لما يمكن تعريفه كمشروع سياسيّ - إقتصاديّ - إجتماعيّ لمستقبل لبنان على المواقف السائدة وجذورها بهدف التحقق من مدى اقتراب المعارضة والموالاة من تعريف كهذا.
ولنبدأ بالموالاة. السؤال الأول البديهي هو : الموالاة لمن أو لماذا وعلى أية أسس؟ إذا فرضنا أنها موالاة لمشروع سياسي يحق لنا أن نسأل عن هذا المشروع. أين هو؟ ما هي منطلقاته؟ ما هي أهدافه؟ وما هي وسائل تحقيق هذه الأهداف؟ أمّا المنطلقات فيبدو لي، كناظر من الخارج، أنها واضحة تماماً. فحتى تعبير الموالاة لم يكن موجوداً أو لم نسمع به قبل التمديد لرئيس الجمهوريّة. الموالاة إذاً من هذا المنظار هي موالاة لرئيس الجمهوريّة. فهل هي موالاة لشخصه تحديداً أم لبرنامجه السياسيّ؟ إذا كانت الموالاة لبرنامج الرئيس يصبح السؤال: ما هو برنامج الرئيس لحّود وما هو مشروعه لمستقبل لبنان؟ الجواب المعلَّب على هذا السؤال هو خطاب القسم وإنجازات إميل لحّود خلال عهده. ونستطيع أن نقسم هذا البرنامج إلى قسمين. القسم الأوّل داخلي ويتضمّن محاربة الفساد، وسيادة القانون العادل، وانتشار التنمية. ماذا تحقّق من هذه الأهداف خلال عهد الرئيس لحود؟ الجواب: لا شيء. ما هو عدد مشاريع القوانين الإصلاحيّة التي سنّها البرلمان الموالي وأنجزتها الحكومات الموالية؟ الجواب: صفر.علام إذن الموالاة؟
القسم الثاني من البرنامج خارجيّ ويتضمّن أساساً تحالفاً استراتيجياً مع سوريا لضمان مصالح البلدين لمواجهة إسرائيل، وحماية المقاومة اللبنانيّة. ولكن من في لبنان يستطيع ألاّ يكون مع أهداف كهذه؟ وطالما أنّ هذه أهداف وطنيّة عامة فلا معنى لموالاة أو معارضة لها. يبدو لي، بالتالي، أنّ موقف الموالاة لا يستند إلى مشروع سياسي – إقتصادي - إجتماعي مستقبلي واضح. وعليه فإنّ الإستنتاج الذي لا مفرّ منه هو أن الموالاة في معظمها موالاة لمصالح شخصيّة طائفيّة ضيّقة تحميها الأجهزة الأمنية اللبنانية والسورية كثمن لاستمرار سيطرتها.
هل يعني كل هذا أنّ المعارضة هي المحقة وهي التي تمتلك مفاتيح المستقبل؟ الواقع أنّ مجرّد سقوط منطق الموالاة لا يعني بالضرورة صحة موقف المعارضة. الصعوبة الأولى هي أنه إذا لم يكن للسلطة مشروع واضح كيف يمكن الكلام عن معارضة؟ معارضة ماذا؟ لعلّها بالضبط معارضة لانعدام الرؤية والمشاريع لدى السلطة. إذا كان الأمر كذلك علينا أن نفترض أنّ للمعارضة مشروعاً واضحاً ويحق لنا تالياً أن نسأل ما هي منطلقاته؟ ما هي أهدافه؟ وما هي آليّة تحقيقه؟ ولكي نستشف منطلقات المعارضة نسأل: من هي هذه المعارضة؟ المعارضة في الواقع هي تجمع لعدد كبير من الخطوط السياسية والطائفيّة والمناطقية جمع بينها قبل اغتيال الرئيس الحريري معارضة التمديد لرئيس الجمهورية والمطالبة بالإنسحاب السوري ويجمع بينها، بعد اغتيال الحريري معارضة "نهج" رئيس الجمهوريّة والمطالبة بالإنسحاب السوري والمطالبة بكشف هويّة قاتل رفيق الحريري.
إذاً لا تنطلق هذه المعارضة من رؤية موحّدة، ولو بالحدّ الأدنى، لنظام جديد سياسي - إقتصادي - إجتماعي واضح للبنان. ليس خطأ بالضرورة ألاّ يكون للمعارضة مشروع محدّد سلفاً. لعلّنا نستطيع إذا قرأنا في أهداف المعارضة أن نبلور مشروعاً للبنان ما بعد رفيق الحريري. ما هي أهداف المعارضة؟ اللافت (جدّاً) هو أن أهداف المعارضة هي هي منطلقاتها: إستقالة رموز السلطة، خروج سوريا من لبنان، ومعرفة الجهة التي اغتالت الحريري. أهداف مُحِقّة كلها ولكنها ليست مشروعاً ولا حتى نواة مشروع. والأسوأ من ذلك هو أنّ أجوبة رموز المعارضة عمّا سيحدث بعد انسحاب السوريين هو : "فليخرجوا ونحن (اللبنانيّين) نتدبّر أمرنا". أو إذا أبدعت المعارضة تقول لنا : "فليخرج السوريون ولتجرَ إنتخابات حرّة وبعدها نرى".
نرى ماذا؟ هناك جزء من المعارضة وجد حلاًّ معلّباً في الإعلان بأنّ مشروع المعارضة هو نفسه مشروع رفيق الحريري. سارع سائر فرقاء المعارضة إلى تبنّي هذا الكلام إمّا تصريحاً أو عبر عدم الإعتراض. ولو فرضنا جدلاً أن جميع فرقاء المعارضة يتبنّون مشروع الحريري فلا بدّ لنا أن نسأل لماذا هذا التحوّل؟ جزء كبير من المعارضة التي تجْهِر اليوم بتبني مشروع الحريري كانت معارضة له حين كان هذا المشروع هو السلطة أو على الأقلّ جزء منها. بعيداً إذاً عن المتاجرة الإعلاميّة، لا بد من القول بأنّ جزءاً لا يستهان به من المعارضة الحاليّة ليست مؤيّدة لجزء لا يستهان به من مشروع الحريري. وعليه فإنّ مشروع الحريري ليس هو الطرح الموحَّد (ولا الموحِّد) للمعارضة، بل قلْ المعارضات. ولا بد هنا من مداخلة بسيطة حول مشروع الحريري.
يكثر الكلام اليوم عن أن لبنان لم يشهد في تاريخه شخصيّة سياسيّة مؤثّرة كرفيق الحريري. ويستند هذا الكلام إلى أن الحريري هو أحد رجليْن، أو قلْ قوّتين، كانت لهما رؤية تكامليّة للبنان - الأوّل كان كمال جنبلاط ومشروع الحركة الوطنيّة في الستينات والسبعينات. من هنا مثّل الحريري تحوّلاً في الحياة السياسيّة اللبنانيّة لإخراجها من تسوية طائفيّة تحاصصيّة، شبه إقطاعيّة، إلى مشروع رأسمالي له إيديولوجيته ويمكنك بالتالي موالاته أو معارضته على أسس إيديولوجية علمانيّة. ولا يهمّنا هنا مدى نجاح المحاولة أو فشلها بقدر ما يهمّنا المشروع بحدّ ذاته. ومشروع الحريري ليبراليّ بامتياز. ليس جديداً ولا استثنائياً. إنّه مشروع يشبه إلى حد بعيد الثاتشريّة والريغانيّة في أوائل الثمانينات. فهو يرى بأنّ الواجب الأساسي للدولة يتمثّل في تأمين القاعدة لرأس المال الخاص لينتج النمو الإقتصادي. وهو مشروع رأى أنّ حماية المبادرة الفرديّة هي الطريقة الأنفع لتوزيع الثروة العامة. مثل الحريري، باعترافه، اليمين الليبرالي الجديد الذي يمزج بين نظريّة إقتصاد العرض وما سماه بوش الأب المحافظة الحنونة. فمن وجهة نظر الحريري كان واجب الدولة تأمين البُنيَة التحتيّة والإستقرار وواجب المبادرة الفرديّة إنتاج النمو الإقتصادي وواجب الأفراد الأثرياء مساعدة الفقراء بمبادرات فردية مثّل الحريري نفسه أسخاها. واللافت هنا تناقض هذا المشروع مع مشروع الحركة الوطنيّة وكمال جنبلاط الذي كان مشروعاً إشتراكياً ديموقراطيّاً بامتياز. القسم المشترك الوحيد بين المشروعين هو لا طائفيتهما.
القول بأن مشروع الحريري كان بالضرورة مشروعاً إجماعياً يتفق عليه كل اللبنانيين قول غير دقيق. فهذا المشروع الذي تعدنا أجزاء من المعارضة باستكماله لم يكن مشروعاً تنمويّاً ولا نهضوياً. صحيح أنه كان مشروعاً إعماريّاً لكن الصحيح أيضاً هو أن الإعمار ليس بالضرورة تنمِيَة. الإعمار شرط من شروط التنمية لكنه ليس مرادفاً لها. وللإيضاح أضرب أمثالاً. مؤسسة الحريري كمؤسسة خاصة ساهمت في تعليم عشرات آلاف اللبنانيين من جيل الحرب، لكن حكومات الحريري كمؤسسة عامة لم تضعْ خطة تنمية للإستفادة من خبرات ومعارف هؤلاء الشباب والشابات على مستوى الوطن ولم تدعم نهوض الجامعة الوطنيّة بشكل يمكّنها من متابعة تعليم مئات آلاف اللبنانيين على مستوى أكاديمي عال. الحريري كشخص ساهم في مساعدة مئات المؤسسات وآلاف الأفراد لإطلاق أو ترميم أو تعويض مشاريع زراعيّة، صناعيّة، إجتماعيّة وثقافيّة. لكنّ الدولة التي ترأسها رفيق الحريري لم تضع يوماً خطة تنمويّة شاملة على مستوى لبنان كلّه للنهوض بالقطاعات الإقتصاديّة أو الثقافيّة. ليس لأنّ الحريري كان عاجزاً أو متقاعساً عن أداء دوره، بل بالضبط لأنّ إيديولوجيّة مشروعه لا ترى أنّ الدولة، أو القطاع العامّ بتعبير أدقّ، هي المسؤولة عن التنمية ولأنّ هذه الأيديولوجيّة، على الأقلّ بتجليها اللبناني، لا تدرك الفارق بين العمران والتنمِية ولا الفارق بين التعليم والنهضة.
إذا كان مشروع الحريري، على الأقلّ من وجهة النظر التي عرَضْتُها، ليس مشروعاً للتأييد، لماذا إذن سيكون لاغتيال رفيق الحريري إنعكاسات سلبيّة على مستقبل لبنان؟ الجواب هو أنّ اغتيال رفيق الحريري واختفاء مشروعه يعني اغتيال مشروع وطنيّ لا طائفي يمكن أن نؤيّده أو أن نعارضه على أساس إيديولوجي وطني لا طائفيّ. وكلام المعارضة عن الوفاء لمشروع الحريري كلام من دون محتوى حقيقي صادق، ذلك أنّ معظم المعارضة كانت هي هي المعارضة يوم كان مشروع الحريري هو السلطة!
نخلص إذن إلى القول بأنّ المعارضة لا تقلّ إفلاساً عن الموالاة لجهة عدم وجود مشروع تنموي حقيقي يؤسّس لنهضة لبنانيّة. هل يعني كل هذا أنّ لبنان لن يكون أسوأ حالاً بعد اغتيل الحريري مما كان عليه قبله؟ طبعاً يصعب التكهّن بما يحمله المستقبل للبنان ولكن القارئ للمستجدّات الإقليميّة والمحلّية لا يستطيع أن يكون متفائلاً. والراصدُ بانتباه لدوافع الشباب اللبناني المتظاهر من كلا الجانبين يرى بوضوح أنّ النزعات الطائفيّة المذهبيّة الضيقة لا تزال تحرك السواد الأعظم من الشعب اللبناني. أمّا عن القيادات فحدّث ولا حرج! من الصعب جداً أن نصدّق أن نبيه برّي، ووليد جنبلاط، وأمين الجميّل، وميشال عون، وسمير جعجع، وغيرهم من الرموز السياسيّة، أصبحوا فجأة أشخاصاً وطنيين لا طائفيين، وإنه بمقدورهم الخروج من زواريب مذهبيّتهم لبناء وطن علماني. الحقبة القادمة هي حقبة إعادة رسم الخريطة السياسيّة اللبنانيّة على مقاييس طائفيّة لخوض الإنتخابات المقبلة. وهي مرحلة إعادة فرز الدولة لحساب الطوائف تماماً كما كانت الحال في فترة أواخر الثمانينات قبل اتفاق الطائف ووصول مشروع الحريري إلى سدة الحكم. بعد إعادة الفرز السياسي هذا ستُغَذى الأحقاد الطائفيّة إلى الدرجات التي شهدناها إبّان الحرب وسنتّجه رويداً رويداً نحو إعادة فرز ديموغرافيّ على أساس مذهبيّ. نحن جيل الحرب نذكر تماماً ما حصل في المرّة السابقة التي أجْرِيَ فيها فرز سياسي تلاه فرز ديموغرافيّ.
مشروع رفيق الحريري، وإن لم يكن تنمويّاً ولا تقدّميّاً، كان على الأقلّ وطنيّاً وغير طائفيّ. كان بإمكاننا أن نعارضه على أسس سياسيّة وإقتصاديةّ. كان السدّ المانع من العودة إلى الوراء وإن لم يكن الطريق الصحيح إلى الأمام.

0 Comments:

Post a Comment

<< Home